الصحوة وأهمية العمل المؤسسي لإتمام النجاح
الصحوة وأهمية العمل المؤسسي لإتمام النجاح
علاء الدين زعتري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
فإن الصحوة حالة مثلى لنشر الوعي في الأمة لتزداد قوة وتماسكاً ومنعة وصموداً في وجه تكالب الاستغراب العالمي والاستكبار الصهيوني على الأمة الإسلامية لتدمير قيمها، وإنسانها حامل لواء الخير.
إن الاختلاف في وجهات النظر العلمية السياسية ليس بعائق أمام التلاحم المطلوب، والتعاون المشروع.
ولما كان الإسلام يُصْلِح الإنسان والزمان والمكان، فإن طول الزمان وبعد المكان وتغير الإنسان لا يؤثر في الإسلام، فالإسلام هو المؤثر في الجميع مهيأ للإنسان سبيل التغيير حسب الكليات والنصوص العامة، متخذاً القواعد الشرعية ميزان حياة الإنسان وطريق سيره، وهذه الخاصية غير موجودة في أي تشريع سماوي آخر، أو حتى تشريعات وضعية، وذلك بما يُعرف عن امتلاك الإسلام من المرونة والسعة ما يجعل الحلول ميسرة لِمَن أراد الاعتصام بحبل الله المتين، واتباع سنة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا التأثير في الإنسان والزمان والمكان هو التجديد بعينه، والباعث للصحوة والنهضة.
ومن المؤسف أن ننشغل بأنفسنا وننسى عدونا، والأسوأ أن يُرَوَّج ليكون الصديقُ والأخ هو العدو، مع تناسي وتجاهل العدو الحقيقي، والأكثر سوءاً أن يُجعل العدو صديقاً.
مفهوم الصحوة:
أولاً: الصحوة في اللغة:
مادة (صحا) في العربية تعني - إذا وُصف بها الإنسان - التنبه والإفاقة واليقظة.
وقد تكون من الصحو، وهو ذهاب الغيم وارتفاع النهار، وذهاب السكر، وترك الباطل([1]).
وتعرف الصحوة مـن مقابلها وهــو: النوم أو السكر، يقال: صحا من نومه أو من سُكره، صحواً، بمعنى: أنه استعاد وعيه بعد أن غاب عنه، نتيجة شيء طبيعي، وهو النوم، أو شيء اصطناعي، وهو السكر.
والأمم يعتريها ما يعتري الأفراد من غياب الوعي، مدداً تطول أو تقصر نتيجة نوم وغفلة من داخلها.
أو نتيجة (تنويم) مُسلط عليها من خارجها.
والأمة الإسلامية يعتريها ما يعتري غيرها من الأمم فتنام أو تُنوم ثم تدركها الصحوة كما نرى اليوم.
ولذا فإن صحوة الأمة تعني: عـودة الوعي والانتباه لها بعد غيبة.
وقد عُبِّرَ عن هذه الظاهرة في بعض الأحيان: بعنوان (اليقظة) في مقابل (الرقود) أو (النوم) الذي أصاب الأمة الإسلامية، في عصور التخلف والركود.
كما عُبِّرَ عنها أحياناً بعنوان (البعث)، وهو أيضاً يكون بعد (النوم)، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60].
كما يكون بعد (الموت) ولعله المُتبادر إلى ذهن المسلم: كما في قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: من الآية7]. والأمة المسلمة لا تموت، ولكن النوم شبيه بالموت وخصوصاً إذا طال.
وقد قيل: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل، أو النوم هو الموتة الصغرى، الموت هو النومة الكبرى([2]).
ثانياً: الصحوة اصطلاحاً:
بناءً على التعريف اللُغوي السابق ممكن أن نُعَرِّف الصحوة بأنها:
تلك الظاهرة الاجتماعية الجديدة التي تشير إلى تنبه الأمة الإسلامية، وإفاقتها وإحرازها تقدماً مُطرداً في إحساسها بذاتها، واعتزازها بدينها وفــي تحررها من التبعية الفكرية والحياتية وفي سعيها للخروج من تخلفها، وانحدارها ولقيامها بدورها الحضاري الخيري المتميز باعتبارها خير أمة أخرجها الله لإعمار الأرض([3]).
واصطلاحا: اليقظة، تصيب الفرد أو الأمة، بعد سَنَة وغفلة وتخلف وتراجع.
وفي مصطلحات الصوفية، الصحوة: رجوع إلى الإحسان بعد الغيبة بوارد قوي([4]).
وقد شاع إطلاقها في هذا العصر على نزوع أمتنا الإسلامية إلى النهضة، بعد عصر التراجع الحضاري، الذي امتد تحت حكم العسكر أيام المماليك والسلطنة العثمانية.
وهى صحوة تجاهد على صعيدين، وفى جبهتين:
1- التخلف الذاتي الموروث عن حقبة التراجع الحضاري.
2- التحديات الغربية، التي تريد تهميش دور الأمة الإسلامية، وإلحاقها بالتبعية للغرب، ليتأبد استغلال الغرب وهيمنته على عالم الإسلام.
ووصف هذه الصحوة بالإسلامية، إنما يأتي تمييزاً لها عن مشاريع النهوض التي اختار أصحابها المذاهب والفلسفات الغربية مرجعية لدعوات النهوض، ونماذج التحديث التي يبشرون بها ليبرالية، أو اشتراكية، أو قومية.
فالصحوة الإسلامية: هي ذلك التيار العريض المتعدد الفصائل والمستويات الذي يسعى إلى تجديد العمل بالدين الإسلامي لتتجدد به دنيا المسلمين.
ولما كانت سنة الله سبحانه وتعالى في مسارات الأمم والحضارات، هي سنة (التداول) والدورات التي تتعاقب فيها الأمم والحضارات فترات وحقب التقدم والتراجع، والصعود والهبوط، والنهوض والركود، والحياة والموت.
وهى السنة التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} [آل عمران: 140].
وقوله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38].
وقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251].
والتي بَيَّنها حديت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قال فيه: "لا يلبث الجَوْر بعدي إلا قليلاً حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لم يعرف غيره، ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره"([5]).
فإذا كانت سنة الدورات هي التي تحكم مسارات الأمم والحضارات، فإن هذه السنة تقتضى الصحوة، واليقظة، والتجديد، خروجاً من مراحل ودورات الغفلة، والتراجع، والجمود.
فصحوة التجديد هي الأخرى سنة من سنن الله في الاجتماع الإنساني وفي مسارات الحضارات.
وعن هذه الحقيقة ينبئ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قال فيه: "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها"([6]).
وإذا كانت الثقافات الإنسانية هي توافقات بشرية وإبداعات مدنية، لا توصف بالخلود ولا بالإطلاق، ومن ثم يجوز عليها الموت وإخلاء الطريق لثقافات أخرى وارثة لأممها وشعوبها وتاريخها، في طريق استمرار الحضارة الإنسانية
ومن يتابع مسيرة الثقافة الإسلامية وحاضنها اللغة العربية، يجد أنهما كانا وما زالا استثناء من مصير موت وفناء الثقافات واللغات، وذلك لارتباطهما بالدين السماوي الخاتم، والقرآن الكريم الذي تعهد الله خالق الكون والحياة بحفظه بلسان عربي مبين.
ومن هنا كانت الصحوة الإسلامية والتجديد سنة مطردة، وقانوناً لازماً في مسار الحضارة الإنسانية بقيادة الثقافة الإسلامية، يقودها إلى النهوض بعد كل ركود، وهذا الذي جعل الأمة الإسلامية تقود الحضارة الإنسانية عمراً أطول من سائر الثقافات عبر التاريخ، وأرسخها قدما على درب النهوض من العثرات، وأكثرها استعصاء على فقدان الهوية والخصوصية.
فهي إبداع مدني بشري، حفز إليه وصبغه وحدد معاييره الوحي الإلهيـ، وتلك خصوصية تفردت بها الأمة الإسلامية عن سائر الأمم.
وإذا كانت العقود الأخيرة قد شهدت تعاظم الصحوات الدينية، في مختلف الديانات، بعد أن فشلت مشاريع النهوض والتحديث اللادينية، فإن تعاظم الصحوة الإسلامية يستند إلى خصيصة إسلامية، ينفرد بها الإسلام عن غيره من الشرائع السماوية والديانات الوضعية، هي منهاجه الشامل، الذي يجعله مؤثراً في التغيير المنشود في أنحاء العالم.
وهكذا ارتبطت الصحوة الإسلامية بحلم الأمة في النهوض، والانعتاق من أسر التخلف الموروث، ومن الهيمنة الاستعمارية والحضارية الغربية، منذ فجر هذه الصحوة وحتى الآن.
أسباب الصحوة الإسلامية:
يمكن عرض مجموعة عوامل وأسباب تساهم في ظهور الصحوة:
أولاً: الهزائم المتلاحقة التي حلت بالأمة، والعرب يقولون: (رب ضارة نافعة). والصوفية يقولون: (كم من منحة في طي محنة).
ومن هذا الخير الذي جاءت به هذه الكارثة إيقاظ ضمير الأمة؛ لترجع إلى الله، وتقرع بابه، وتسأله التوبة، فلا يرد الناس إلى الله مثل الشدائد؛ فالإنسان تغره العافية والرخاء، فإذا تبدل رخاؤه إلى شدة، وعافيته إلى بلاء ذكر الله تعالى وأناب إليه، كما يفعل ركاب السفينة، إذا جاءتها ريح عاصف، وجاءها الموج من كل مكان، وظن ركابها أنهم أحيط بهم، هنالك يدعون الله مخلصين له الدين.
وهكذا تولد الصحوة الإسلامية ولادة طبيعية بلا قيصرية، ولا عملية جراحية، كما كان الحمل طبيعيًّا أيضًا، لا يحتج إلى أطفال أنابيب ولا غير ذلك.
ومن هنا لا معنى للذين يزعمون أن الصحوة الإسلامية إنما تنشأ بفعل فاعل، وصنع صانع.
ثانياً: فشل الحلول والأفكار المستوردة، الدخيلة على أمتنا، حيث جنت على الأمة مزيداً من التخلف والتراجع والهزيمة، كل هذا جعل الأمة تدرك أنه لا خلاص لها إلا بصحوة شاملة.
ثالثاً: اقتضت حكمة الله وإرادته ألا تطول غفلة الأمة ونومتها، وذلك أن الله يبعث لها من يجدد لها أمر دينها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأسِ كل مئة سنة من يُجدِّد لها دينها"([7]).
القصد من المؤسسة هو تأطير العمل الجماعي الذي تقوم به مؤسسة ذات شخصية اعتبارية تبني هيكلها على أساس الالتزام بمبدأ الشورى وتوزيع الأعمال والتخصصات، ووضع السياسات والبرامج والصلاحيات الإدارية والمالية على مجالسها الإدارية ولجانها الفرعية المتخصصة مع فرق العمل الميداني المتكاملة.
من هذا التعريف تخرج المؤسسة من مفهوم العمل الفردي الذي غالباً ما يتسم بالضعف وسوء التخطيط والارتجال والفردية.
وقد أثبتت تجارب العمل الإسلامي أن الفردية في إدارة كثير من العمل الدعوي والتنموي هي السائدة. بل قد تستبد الفردية أحيانا بكامل المؤسسة فيصير أمرها إلى فرد واحد مستقل عن رأي الجماعة وشورى المؤسسة مما يولد النفرة بين القلوب ن ويفضي إلى التنازع والفشل.
وبالجملة فإن إشاعة ثقافة العمل المؤسسي هي العاصم من تضخم الفردية والعشوائية والرتابة.
ومن النقاط التي ينبغي مراعاتها لقيام العمل المؤسسي:
وضع هيكل تنظيمي محكم.
تحديد الواجبات والحقوق والصلاحيات الإدارية والتنفيذية.
التدريب على العمل المؤسسي وإشاعة ثقافة العمل الجماعي.
إشاعة روح الحوار والتناصح والتقويم الدوري المستمر.
أهمية العمل المؤسسي في ترشيد الصحوة:
إن من أخطر ما تعانيه الأمة الإسلامية: غياب الروح الجماعية في العمل الدعوي والتشريع الفقهي والاجتهاد الحضاري.
وأعتقد أن من أهم أسباب ذلك: أن الوعي المدني لم يتم تنظيمه بشكل كافٍ، فهو بحاجة إلى المؤسسات المختلفة.
• فلقد صارت الصحوة اليوم معادلة صعبة في الموازين العالمية، والخطر الأوحد أمام الأنظمة الغربية، بل نستطيع القول: إن كثرة الأتباع غير الواعين أصبح يمثل هاجساً للدعاة والمصلحين أنفسهم.
• وعليه فلا بد من مراجعة أساليب العمل الدعوي اليوم.
• كما أنه من الضروري العناية بتنمية الفكر الجماعي، وأسلوب العمل المؤسسي المحكم الذي صار أسلوب القوة والتحدي في هذا الزمان.
• يكفي برهاناً من الواقع أن الدول الكبرى في الوقت الحالي دول مؤسسية ليست مرتبطة ارتباطاً كلياً بالأفراد؛ فالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً هي بجملتها مؤسسة ضخمة تضم في ثناياها عدداً هائلاً من المؤسسات مختلفة التخصصات، ولا تتغير استراتيجياتها الرئيسة بتغير أفراد حكوماتها إلا من منطلق جماعي.
وفيما يأتي محاولة لتأصيل الفكر الجماعي، وبيان معنى العمل المؤسسي، وتحديد المراد به، ثم عرض شيء من مزاياه وفوائده، وبعض أسباب تقصير الدعاة في الأخذ به، ثم ذكر مقومات نجاحه.
نحو وعي أعمق للروح الجماعية:
• إن تغيير واقع الأمة يتطلب في المستوى الأول تغيير النفوس.
• ومن عناصر ذلك التغيير: تعميق الفهم، وتجديد الفكر، وتصحيح المفاهيم التي من أهمها: مفهوم الفرد، والجماعة.
• الفرد هو العنصر الأساس في بناء الأمة، ولكن شرط قيامه بدوره الأكمل هو تعاونه مع بقية أفراد الأمة.
• الأمة التي يتعاون أفرادها هي أمة الريادة؛ لأن تعاونهم يضيف كل فرد إلى الآخر إضافة كيفية لا كمية، ومن ثم تتوحد الأفكار والممارسات من أجل تحقيق رسالة الأمة، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يربي صحابته على الروح الجماعية، روح الأمة، كما ضرب مثلاً - للمجتمع - بقوم أقلَّتهم سفينة، إن أراد أحدهم خرقها وجب على الجميع الأخذ على يده، وإلا غرقوا جميعاً([8]).
• المسؤولية في بلوغ الريادة تقع على الأمة جميعاً في مقابل أمة الكفر.
• العودة بالناس إلى روح الأمة يستدعي إجراءات.
1. أولها: فك الارتباط القائم بين العمل الإسلامي والأُطُر الحزبية الضيقة؛ ليتقبل العمل الإسلامي الإستراتيجية الصائبة الموصلة إلى الهدف، سواء انبعثت من داخله أو خارجه.
2. ثانيها: تنمية الصفات التي تحقق التفاعل بين الأفراد وتعميقها، كالأخوة، والشورى، والتواصي بالحق وبالصبر، والعطاء المتبادل، والقدرة على التجميع، مع موالاة الأمة، لا الحزب. ولا بد من تحقيق التوازن بين الروح الفردية والروح الجماعية، وهذه مهمة التربية المتوازنة التي لا تحيل الأفراد أصفاراً، وأيضاً لا تنمي فيهم الفردية الجامحة، بل توفر لهم المناخ المناسب لتنمية شخصياتهم، مع اختيار أساليب العمل التي تحول دون التسلط، وتنمي المبادرات الذاتية، وترسخ الشورى.
3. ثالثهما: تحويل العمل من أسلوب المركزية في اتخاذ القرار وتطبيقه ومراقبة تنفيذه إلى أسلوب المشاركة التي تُحسِّن الأداء وتنمي الشخصية، فيلتقي نموها مع روح الفرد التي أثمرها التعاون فيزداد التفاعل وتتكامل الجهود.
إن الجماعة والتنظيم في الإسلام يعني كلٌ منهما: التعاون والعلمية أي تعاون الجهود في خطة يضعها العلم؛ فجوهر الجماعة وحقيقة التنظيم إنما هو التعاون بين المسلمين، والتكامل بين نشاطاتهم في طريق التمكين لشريعة الله، وإقامة دولة الإسلام، وإحياء الأمة الإسلامية.
مزايا العمل المؤسسي وفوائده:
1. تحقيق مبدأ التعاون والجماعية الذي هو من أسمى مقاصد الشريعة.
2. تضييق الفجوة بين عمل الدعاة، وردم الهوة بينهم بتحقيق ذلك المبدأ، وتأسيس الأعمال المشتركة بينهم؛ فإن ذلك يقلل التصادم والنزاع، وهي الطريقة المتبعة بين الدول في تأسيس اللجان والمجالس المشتركة، وهو ما لم يشعر بعض الدعاة بأهميته وضرورته بعد.
3. تحقيق التكامل في العمل، وذلك في عمل الفرد عزيز، فكثيراً مما يحصل من القصور في عمل الفرد يتلاشى في عمل المؤسسة؛ إذ المفترض حدوث التكامل باجتماع الجهود، والمواهب، والخبرات، والتجارب، والعلوم، مع التزام الشورى، والتجرد للحق. وأيضاً: فإن العمل الفردي يصطبغ بصبغة الفرد، بينما المفترض أن يخلو العمل المؤسسي من ذلك.
4. الاستقرار النسبي للعمل، بينما يخضع العمل الفردي للتغير كثيراً - قوة وضعفاً أو مضموناً واتجاهاً - بتغير الأفراد، أو اختلاف قناعاتهم.
5. القرب من الموضوعية في الآراء أكثر من الذاتية؛ حيث يسود الحوار الذي يَفْرض قيامُه وضعَ معايير محددة وموضوعية للقرارات تنمو مع نمو الحوار، في حين ينبني العمل الفردي على قناعة صاحبه.
6. دفع العمل نحو الوسطية والتوازن؛ إذ اجتماع الأفراد المختلفين في الأفكار والاتجاهات والقدرات يدفع عجلة العمل نحو الوسط، أما الفرد فلو توسط في أمر فلربما تطرف - إفراطاً أو تفريطاً - في آخر.
7. توظيف كافة الجهود البشرية، والاستفادة من شتى القدرات الإنتاجية؛ وذلك لأن العمل المؤسسي يوفر لها جو الابتكار والعمل والإسهام في صنع القرار، بينما هي في العمل الفردي أدوات تنفيذية رهن إشارة القائم بالعمل، ويوم أن أعرض المسلمون عن هذا العمل خسروا كثيراً من الطاقات العلمية والعملية، فانفرد أصحابها بالعمل، أو فتروا عنه.
8. ضمان استمرارية العمل - بإذن الله تعالى - لعدم توقفه على فرد يعتريه الضعف والنقص والفتور، ويوحشه طول الطريق وشدة العنت وكثرة الأذى.
9. وللمثال: فقد كان من أقوى أسباب استمرار التعليم قوياً في الدولة الإسلامية - حتى في عصور الضعف السياسي: قيامه على المؤسسات العلمية القوية التي تمدها الأوقاف، كما تمد سائر الجهود الدعوية والإغاثية - التي لم يُتجرأ عليها إلا في العصر الحديث - واليوم نرى استمرار المؤسسات الغربية قوية تساندها جمعيات كثيرة.
10. عموم نفعه للمسلمين؛ لعدم ارتباطه بشخصية مؤسسه، وهذا بدوره ينمي الروح الجماعية الفاعلة، ويحيي الانتماء الحقيقي للأمة، وهذا مكمن قوتها.
11. مواجهة تحديات الواقع بما يناسبها؛ فإن الأمة اليوم يواجهها تحدٍّ من داخلها، في كيفية تطبيق منهج أهل السنة مع الاستفادة من منجزات العصر، دون التنازل عن المبادئ، كما يواجهها تحدٍّ من خارجها مؤسسي منظم؛ والقيام لهذا وذاك فرض كفاية لا ينهض به مجرد أفراد لا ينظمهم عمل مؤسسي، كما لا ينهض أفراد الناس لتحدي العمل المؤسسي في مجالات الحياة الاقتصادية، أو السياسية، أو الإعلامية، أو غيرها.
12. الاستفادة من الجهود السابقة والخبرات التراكمية، بعد دراستها وتقويمها بدقة وإنصاف وحيادية، وبذلك يتجنب العمل تكرار البدايات من الصفر الذي يعني تبديد الجهود والعبث بالثروات.
سبب الإحجام عن العمل المؤسسي:
1. طبيعة المجتمعات الإسلامية المعاصرة عامة، وعدم ترسخ العمل المؤسسي في حياتها؛ لما اعتراها من بُعد عن الدين أدى إلى تأصل الفردية، وضعف الروح الجماعية، والحوار والمناقشة والمشاركة، ولما حلّ بها من تخلف حضاري أقعدها عن الأخذ بأسباب الفاعلية والنجاح، فأصابها التأخر وتبدد الطاقات.
2. ضعف الملكة الإدارية لدى كثير من العاملين في الحقل الإسلامي، بسبب إهمال العلوم الإنسانية التي أفاد منها الغرب، وهذا مما ورثه العاملون عن مجتمعاتهم. وقد أدى هذا الضعف إلى الجهل بالعمل المؤسسي ومقوماته وأسباب نجاحه فتلاشت الخطط، وأغلقت دراسة الأهداف وإقامة المشاريع، وصار العمل مجرد ردود أفعال غير مدروسة أو عواطف غير موجهة.
3. حاجة الدعوة إلى الانتشار، مع قلة الطاقات الدعوية المؤهلة؛ مما حدا بكثير من الدعاة إلى التركيز على الكم لا الكيف، والغفلة عن قدرة العمل المؤسسي على الموازنة بين الكم والكيف، وتحقيق أكبر قدر منهما.
4. الخلط بين العمل الجماعي والمؤسسي، والظن بأن مجرد قيام الجماعة يعني عملاً مؤسسياً، في حين أن كثيراً من التجمعات والمؤسسات لا يصدق عليها حقيقة هذا الوصف؛ لانعدام الشورى، والمركزية في اتخاذ القرار.
5. حداثة العمل الإسلامي المعاصر، فإنه إذا ما قورن عمره بعمر المؤسسات الغربية بان قصيراً جداً. يقال هذا لئلا تُهضم الحقوق، ولكي نقترب بالحديث من الإنصاف لهذه الصحوة المباركة؛ حيث نرى بوادر الاهتمام بالمجالات الإدارية أكثر من ذي قبل.
مقومات نجاح العمل المؤسسي:
للتربية الإيمانية المتكاملة أكبر الأثر في بناء الطاقات، وتنميتها، واستثمارها استثماراً مناسباً، وهذا عماد العمل المؤسسي، ويمكن تفصيل المقومات اللازمة لنجاحه على النحو الآتي:
1- توفر القناعة الكافية بهذا الأسلوب من العمل؛ بإدراك ضرورته، وخاصة في زمن القوة، وبمعرفة مزاياه وثمراته، وفهم مقومات نجاحه للوصول به إلى المستوى المطلوب.
2- صدور القرارات عن مجالس الإدارة، أو اللجان ذات الصلاحية، حرصاً على خروجها من أدنى مستوى ممكن، لتكون أقرب إلى الواقعية وقابلية التنفيذ، ولا يجوز أن يكون المصدر هو الفرد أو المدير؛ فإنه يستمد صلاحياته من المجالس، لا العكس، ويجب أن تملك المجالس واللجان صلاحية مراجعة قرارات المديرين ونقضها.
3- أن تكون مجالس الإدارة أو اللجان غير محصورة في بيئة واحدة محكومة بأطر تنشئة وتربية وتفكير محددة مما يؤثر على طبيعة اتخاذ القرار، فوجود أفراد من بيئات مختلفة ضمن هذه المجالس يثري العمل المؤسسي بتوسيع أنماط التفكير وتعديد طرق التنفيذ.
4- أن تسود لغة الحوار، حتى تتلاقح الآراء للخروج بأفضل قرار، وأيضاً حتى يخضع الرأي الشخصي لرأي المجموعة. ويذكر هنا بالمناسبة: نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأي أصحابه في أحد، وخروجه من المدينة تلبية لرغبتهم، مع ميله للبقاء في المدينة، وتأييد رؤياه لرأيه، وبعدما حصل ما حصل لم يصدر منه لَوْم لأولئك المقترحين للخروج.
5- تحديد ثوابت ومنطلقات مشتركة للعاملين في المؤسسة تكون إطاراً مرجعياً لهم، توجه خطة العمل، وتناسب المرحلة والظروف التي تعيشها المؤسسة.
6- التسامي عن الخلافات الشخصية، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وهذا يتم بتحسين الاتصال والتواصل بين أفراد المؤسسة بعضهم مع بعض، وبينهم وبين سائر العاملين في الحقل الإسلامي.
وهذا أساس قوي للنجاح؛ ففي استفتاء لعدد من القياديين الناجحين اتضح أن الصفة المشتركة بينهم هي القدرة على التعامل مع الآخرين، ولن يتم ذلك لأحد ما لم تتربَّ أنفسنا على العدل والإنصاف، ومعرفة ما لدى الآخرين من حق، ومحاولة فهم نفسياتهم من خلال نظرتهم هم لأنفسهم، لا من خلال نظرتنا نحن.
7- الاعتدال في النظرة للأشخاص؛ بعيداً عن الغلو والتقديس. وكأن هذا ما أراده عمر - رضي الله عنه - حين عزل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - خشية تعلق الناس به، وربطهم النصر بقيادته.
8- إتقان التخطيط، وتحديد الأهداف لتنفيذها، وتوزيع الأدوار، وهذا يتطلب مستوى جيداً في إعداد القادة والمسؤولين، وتدريب العاملين مع الاستفادة من كل الإمكانات، وتوظيف جميع الطاقات، بعد التعرف عليها جيداً.
والمهم هو التركيز في جداول الأعمال على المنطلقات والأسس والخطوط العامة، دون الانهماك في المسائل الإجرائية، والتي قد لا تحتاج إلا لمجرد قرار إداري أو إجراء تقليدي، ودون المسائل التي يكثر الجدل والخلاف حولها.
ولضبط الخطط، وإتقان تنفيذها، وبلوغ الأهداف، يراعى الآتي:
أ - الأناة في التخطيط، والحماسة في التنفيذ؛ فالأول: لمراعاة القدرات والإمكانات، ومعرفة التحديات وحسن تقدير العواقب، وتحاشي مخاطر السرعة، والثاني: لاستباق الخيرات، وكسب الزمان، واغتنام الهمة، ومبادرة العزيمة.
ب – اتباع أساليب علمية حكيمة تكفل استمرارها وأداءها لعملها على الوجه المطلوب، وحتى لا تتعرض لكيد الكائدين وأساليب المغرضين، ولا ينبغي أن يكون أهل النفاق أكثر حنكة منا؛ فكم نالوا أهدافهم من جمعياتهم وأعمالهم حتى بلغوا مناهم.
قواعد في أهداف العمل المؤسسي:
لكل عمل مؤسسي أهداف، ولتوحيد لجهود المؤسساتية، أضع بعض القواعد الكلية لتكون الأهداف التي تسعى إليها المؤسسات:
1. المرجع الرئيس: الوحي بقسميه (المتلو، وغير المتلو).
2. العمل على ضرورة حفظ النفس والدين والعقل والعِرض والمال.
3. الاختلاف سَعة في الدين ورحمة للخلق؛ ما لم يؤد إلى الشقاق والنفاق.
4. عند الاختلاف في الدائرة الأصغر (الفروع) يتم الانتقال إلى الدائرة الأكبر (الكليات)، محافظة على الجميع.
5. التركيز على مآلات الأفعال أكثر من النظر إلى ظواهرها.
6. الاهتمام بالتخطيط الاستراتيجي "إنما الأعمال بالنيات"، أكثر من التصرف الآني.
7. الولاء للدين (المحبة والانتصار له)، لا يلغي الانتماء إلى القوم، أو العرق، أو اللغة، أو الأرض.
8. حقوق المسلمين واجبة تجاه بعضهم (لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره ولا يتخلى عنه، ولا يستعين عليه)؛ وإن تعددت الألسن والأعراق والبلدان.
9. الأصل في العلاقات بين المسلمين: التعاون القائم على المحبة، ومع غير المسلمين: السلم القائم على قاعدة التعارف.
10. مراعاة مشاعر المسلمين، وتغليب النَفَس الدعوي المجمع على خطاب التحريض المنفر.
11. تجنب الخطاب الاستفزازي، وغلِّب جانب التآلف للمحبين، والمداراة للخصوم.
12. في الخطاب الدعوي: الحرص على ما ينفع، وتصحيح المفاهيم بالنصح والإرشاد، لا بالفضائح والاتهامات.
13. العمل عبر تكامل المؤسسات في الاختصاص، وعدم تقديم البعض بديلاً عن بعض.
14. واجب الدعاة المناصحة، وليس مغالبة الحاكم.
15. تجنب أعمال العنف، وإعلان البراءة من كل ما يمت إليه بصلة.
16. تجنب الخطاب الاستعلائي، أو الفعل الإلغائي والإقصائي.
17. الانفتاح على أفعال الخير والمشاركة فيها، والإعانة عليها، على قاعدة تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.