الصحوة الإسلامية وإشكالية الولاء والبراء
الصحوة الإسلامية وإشكالية الولاء والبراء
عثمان محمد جاه
أ.تمهيد
إنّ الحديث عن صحوة شيء في غياب تصوّرٍ عامٍ وشامل عن حالته قبله يفقده المعنى الائق به، ويفصل الحبل عن أصل ربطته. فالصحوة هنا منسوبة إلى الإسلام، والإسلام هيكل متعددة الأطراف، وعقيدة ينبثق من خلالها سلوك المقتنعين بها، فتتحد اتجاهاتهم أو تتشابه بشكل لايجعل المتأمل فيها يرى تمييزا في ما بينها بشكل عام.
تعتبر العقيدة الإسلامية فريدة من نوعها، عقيدة اعتبرت الحياة كلّها الدين كله، حياة مزدوجة تتأكد من خلالها علاقة الروح بالبدن، وتعتبرغياب أحدهما غيابا للآخر، كماليّة وشموليّة وعموميّة لم توجد بصورتها الحيّة المتماسكة والمتصلة إلاّ في العقيدة الإسلامية، التي رتبها كما هي ربّ العزة والجبروت، خالق كل شىء جلت قدرته.
وهذا المفهوم الشامل للعقيدة الإسلامية بقي على تلك الصفة بقوة تأثيره طيلة الثلاث والعشرين السنة التي تزعّم دولتها المتلقي الأول سيّد البشر محمّد صلى الله عليه وآله، وبعد التحاقه إلى الرفيق الأعلى حدثت نقلة سريعة في تغيير مفاهيمها، بدأ الخلاف في تصنيف جزئياته يلوح في الأفق، كان القرآن الكريم هو المصدر الوحيد المتفق علي صحته للبتّ في الخلافات أو في تقنين المسائل، وكان آثار مؤسس الدولة الإسلامية سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله في نفوس أتباعه حاضرة وقويّة إلى حدّ جعل الأمة الإسلامية في توادّها وتراحمها وتعاطفها جسدا واحدا، وجعل معالم الحدود بين دولة الإيمان ودولة الكفر واضحة، وكان الإيمان أساس المحبة والتعاون والتآخي " إنّما المؤمنون إخوة" ([1])"محمّد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم"([2]) " لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه"([3]) " المسلم أخو المسلم"([4]) " إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"([5]) "
أسسٌ وقواعدُ ومبايءُ وُضعت كلّها لرسم طريق وحدة تستمدّ من توحيد الله تعالى قوّتها وحيويّتها، وترى الإسلام كلّه ملّة واحدة، والكفر كله ملة واحدة، ولكنّ هذا الفهم الصحيح للدين وسلوكه القويم الذي عرف به الأولون من السّلف الصّالح أصيب بداء البعد والتقادم مما فرض واقعين على طبائع أتباعه، وهما واقعي الجهل والانحراف الخلقي، صفتان ممقوتتان ومتلازمتان تلازم الرّبوبية والألوهية في ذا ت الخالق تعالى، فالجهل تقتضى الانحراف الخلقي، والأخير يستلزم الجهل، وهما معا نتيجة عن البعد الزمني من العهد النبوي.
وهذه الواقعة أحدثت منذ بكورة الإسلام تجاذبا بين الغفوة والصحوة، بين مدّ وجز. فهي صحوة لأنها مولودة جديدة وشاب نشط وقوة طاغية، كما أنّهاغفوة لأنها شيخ ضعفت قوته، وكلّما تجددت قوته كانت صحوة، وكلّما ضعفت كانت غفوة. والصحوة في هذا القانون التجاذبي هي الأصل، والتجدد هو الفرع. ولما كانت الصحوة هي الأصل فلا فلا يتأتى التجديد ما دامت على طبيعتها، وعليه فإنّ الصحوة تعني: كشف الستار عن الحقائق المندرسة وتحريك الساكن وردّ المياه إلى مجاريها الطبيعية، وهذه العملية تتطلّب إيقاظ عاملين مهمين هما: قوة الحجيّة واستقامة السلوك.
ب مفهوم الغفوة
نعني بالغفوة، الإفرازات الذاتية والأمراض الباطنية التي نبعت من جسم الأمّة ذاته وأنهكته. فطبيعية غفوة الأمة بهذا المفهوم إذًا حقيقة لايمكن الحيدة عنها، نعم فلسنا نتردد في قبول صحة دعوى حضور مكائد الأعداء وتأثيرها منذ الفجر الأول، ولكننا نبالغ كثيرا في تعميقها داخل جسم الأمة، ونعجز عن التفريق بين العجز الناتج عن مكائد الأعداء والناتج عن مكاسب أيادي الأمة، وهذا الأخير حال دون اجتهاد الأمة في تحديد مصادر الطروءات وتحديد آلية للنقد الذاتي وتشخيص الداء، وبالتالي تعرف الأمّة الوصفة الدقيقة والجرعات المناسبة لعلاج الداء.
فهل حروب الردّة التي وقعت في اليمامة، واليمن، والبحرين، في بداية عهد الخليفة الأول كانت أسبابها إملاءاتِ الأعداء، أم كانت نتيجة جهل وضعف في الإيمان؟، وهل سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس وفي غيرها من المدن الإسلامية كانت بسبب إملاءات خارجيّة أم بإحياء العصبيّة الجاهليّة واتباع الهوى، وجور بعض السلاطين الأمويين.؟!
ت.اصطناعية الغفوة
فجميع دعاوى التدخلات الخارجية وتأثيرها في تحريف مسار الأمّة، سواء ما يتعلق منها بالتجهيل أو بالإنحلال الخلقي يعود في أساسها- في رأيي- إلى غفوة الأمة الناتجة عن إهمال عامل الولاء والبراء. فالتنويم الاصطناعي إذًا أقرب إلى الخيال منه إلى الواقعية، إذ العقل السليم يأبى تكرار اللّدغة في جحر واحد" لايلدغ المؤمن في جحر مرّتين". فالتّعرف على جذور داء في فلسفة علوم الطبّ حدّ لفعاليته.
ث.فرص الصحوة
آيتان في السورتي البقرة والأنفال على التوالي لمن يمعن فيهما النظر والتدبر، بمثابة جرس على آذان المؤمنين يدعوهم إلى اليقظة وأخذ الحيطة والتأهب القصوى انتظارا لهجوم الأعداء. يقول المولى سبحانه وتعالى:" ولن ترضى عنك اليهود ولاالنصارى حتّى تتبع ملتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى"([6]) ويقول تعالى: " إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون، والذين كفروا إلى جهنّم يحشرون"([7]) هاتان الآيتان مهّدتا للأمة أساسا متينا للصّحوة واليقظة، سواء كانت اليقظة ذاتية الدفع، أو لأسباب خارجيّة، فالآية الأولى رسمت للمؤمنين خطوطا عريضة تبيّن معالم العلاقة بين المؤمنين وغيرهم، وبيّنت استحالة قيام علاقة تكافإ أو أنداد بين المؤمن وبين اليهود والنصاري إلاّ بعد ذوبان عزة الأول في وجود الثاني، أو بعبارة أخرى إلاّ بعد إنسلاخ المؤمن من قيود عقيدته ودينه الحنيف، و المؤمنون ما داموا يرفضون التبعية ويسعون إلى الاستقلال الذاتي والشعور بعزتهم فإنّ العدواة قائمة ومستمرة، والعداوة أينما وجدت فالحرب محتمل الوقوع. ومن مقتضيات هذا الواقع المرير اصطحاب اليقظة والتأهب القصوى إمّا للهجوم المباغت على العدو أو للدفاع عن هجومه. وأمّا الآية الثانية فراحت تؤكد للأمّة حجم استعدادت الأعداء وخططهم المحكمة الموضوعة لشنّ الهجوم على المؤمنين، ثمّ أتت الآية بعد تحذيرها للمؤمنين ودعوتها إلى اليقظة بتعقيب يفهم منه وعد من ربّ العزة والجبروت بإفشال جميع مكائد الأعداء وخسارتهم المعركة في الدنيا، وفي الآخرة عذاب أليم. ولكن لاأظن أنّ مؤمنا يقظا يفهم من الوعد الذي قطعه الله تعالى لأمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر على العداء التخاذل وعدم الحيطة بعد أن قرأ قوله تعالى: " وأعدوا لهم ما ستطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوكم"([8]) ففرص الصحوة في هذا الزمان إذًا مواتية وقوية.
ج.مظاهر الصحوة.
للصحوة عوامل ومظاهر، وهما عنصران مختلفان في القضايا غير قضيتنا هذه ، فهما بمثابة عمل ونتيجته، وأمّا في قضيتنا هذه فهما عُملتان ذواتا وجه واحد، فعوامل الصحوة في عالمنا المعاصر هي مظاهرها. و مظاهر الصحوة تتلخص في مجالين مهمين هما:
1.العلم.
استطاعت الأمّة بعد مضيّ عقود من حكم الاستبداد والتبعية أن تصحح مفهومها الضيق تجاه العلم كعنصر أساسيّ في مسيرة الاستقلال والتحرر من قبضة السيادات الوهمية التي استطاع المستعمر البغيض أن يغرسها في نفوس المؤمنين، وكما قلت آنفا، فالعلم بمفهومه الضيّق لم يكن يوما من الأيام عنصرا مفقودا بين أفراد الأمة، ولم يكن كذلك مفقودا حين كان الأعداء ينتصرون في حروبهم الصليبية، ولاحين سقطت المماليك الإسلامية على حساب العلمانية، ولكن العنصر المفقود كان في سعة مجالاته بحيث يجعل الدين والحياة كلاّ لايتجزأ، كان العلم قبل الصحوة يبحث في القضايا التي تمس لبّ الدين كأركان الإسلام من صلاة، وزكاة، وصوم، وحجّ، وما إلى ذلك من فروعها، أو بتعبير آخر لم تكن الأمّة قبل بداية الصحوة ترى للإسلام سعة تشمل الدين والحياة كلها في آن واحد، ولم تكن ترى أن للإسلام قدرة على الجمع بين إقامة الدين وسياسة الدنيا، وبالتالي لم تكن للعلوم الضرورية في سياسة الدنيا جدوى ولم يكن لها حظ من ضمن اهتماماتهم.
نعم فلا أحد ينكر ما حققه بعض الأفراد من المسلمين الأوائل والشوط الطويل الذي قطعوه في مجالات علم الفلك، والهندسة، والطبّ وغيرها من العلوم الإنسانية، ولكن رياح الغفوة هبّت على أطلالها بعدهم فاندرست نسبة تلك العلوم إلى أصحابها وكأنها شىء لم يكن قطّ. واليوم تشهد الأمة ويشاركها العالم في هذه الشهادة بصحوة عظيمة في مجال العلم وبكلّ ما تحتويه كلمة [العلم] من معنى الشمولية والعمومية، وبصحوة عظيمة في مجال فهم حقيقة الدين وقدرته على سياسة الدنيا أكثر من غيره، وهذا الفهم العميق أنتجت ثوراتٍ علميةً، تقنية، هندسيّة، طبّيّة عارمة تنهض ببعض الأفراد والجماعات والدول الإسلامية وترقى بها إلى مستوى الشعور بالمسؤولية والانعتاق والاستقلال الذاتي بعد احتكار طويل مارستها مؤسساتُ ودول الاستكبار العالمي. وهذه القفزة العلمية الهائلة التي حققته الأمة في مجال العلوم التقنية أثارت في نفوس أعداء الدين وعالم الاستكبار حافزا جديدا، وجعلتها تتبنّى استراتيجية جديدة في حربها على الأمة. لم تكن دول الاستكبار العالمي لتعير للعالم الإسلامي وللأمة الإسلامية أيّ اهتمام لو بقيت الأمة على حصر الدين كله في الأركان الخمسة، ولم تكن لتقيم الدنيا ولاتقعدها لو اكتفت الأمة في مجال العلوم بما تصلح به عباداتها المأخوذة من نصوص الكتاب والسنة بمفهومه الضيّق.
والاستكبار العالمي حين لاحظت أن صحوة في مجال الفهم الصحيح لحقيقة الدين قد تولدت، وأنّ الأمة لم تعد ترضى التبعية والاسترقاق، وأنها تجاوزت الخط الأحمر الفاصل بين الاستقلال الذاتي في جميع المجالات الحياتية والتّكنولوجية والإقتصادية والسّياسية وبين الذوبان الكامل في كيانها في ذوات المجالات، هنا قامت للسدّ عن هذا الزحف الكبير. فموقف قوة الاستكبار بذلك يمثل صورة واقعية طبق الأصل، فقد قال قائلهم من قبل: " أجعل الآلهة إلها واحدا إنّ هذا لشيء عجاب"([9]) إجابة عن دعوة القرآن إلى التّحرّر من رقّ العباد إلى عبودية الخالق، كان الأوائل من أسلاف عالم الاستكبار يفهمون من الآية لزوم التّخلي عن كّل شىء ما عدا ما يدعوهم إليه النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم، وكان عليه السلام يدعوهم إلى التخلي عن كلّ شىء ماعدا خالقهم، وعالم الاستكبار اليوم استرجع مفهوم كبرائهم العميق للدين، لذا يرى في الصحوة خطرا وتهديدا لمصالحهم القومية، فشنّوا هم أيضا ضد كلّ من يتوفر لديه هذا الفهم الشامل من أفراد، أو جماعات، أو دول، حروبا تتلون أشكالها وتتنوع أساليبها، وهذه الحروب لن تتوقف مالم تنهزم الأمّة أو ترسّخ في نفوسهم مفهوم قوله تعالى:" وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".
2. النقد الذاتي .
إنّ العقل السليم يملي لكلّ من ضلّ طريقه أن يرجع إلى حيث جاء، لقد تبنى كثير من الشعوب الإسلامية أنماطا مختلفة من الحياة، وحاولوا تبسيطها بزعمهم، ورأوا في الإسلام تخلفا، وفي ممارساته تضييقا للحياة، وفي أحكامه عنفا، وفي علاقاته مع الآخرين استبدادا، فسنّوا شرائع وقوانين يرونها بديلا عن شريعة الخالق المدبر" ألا يعلم من خلق "([10]) خالق ينعكس عنده قوانين الزمان والمكان، فماضيه حاضره وحاضره مستقبله، شرقه غربه، وشماله جنوبه. وخالق هذه صفته لايعجز أن يضع للناس شريعة صالحة لكل زمان ومكان، وهو ما قد فعل والحمد له تعالى.
وعلى هذا الأساس رأى أعداء الدين- جهلا أو بغيا- أن شريعة الله ناقصة لم تلب متطلبات المخلوقين، فشرّعوا شرائع جديدة، وتبعهم في عقيدتهم تلك سفهاء من المسلمين، فملؤوا الدنيا ظلما وجورا وانحلالا خلقياًّ جعل العيش معها كالعيش في نار جهنم. تبدّل الأمن الذي أسّسه الإسلام خوفا، وتبدّل التوحيد شركا، والعدلُ جورا، والرحمةُ عنفا وشدّة، فأصبح المربوب عندهم ربّا.
وبينما الناس في هذا الدور والحيرة من أمرهم تمثل لهم الوعد المقطوع من قبل خالقهم " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون"([11]) وما أن قرأوا هذه الآية إلا أحيت فيهم روح الحماس الديني، وبعثت في نفوسهم يقظة، وانكشفت لهم أسرار مكائد أعدائهم، فعلموا أنّ الخلاص في الرجوع إلى الله والاعتصام بحبله المتين، فانخلعوا بذلك من ثوب العلمانية الذي لبسوه، وانسلخوا من سوء أخلاقهم، وراحوا يزّكون نفوسهم بإلهامها تقواها، فأصبح الفلاح هدفهم الأسمى، وتقوى الله تعالى وسيلتهم المثلى.
إنّ ظاهرة التدين، والتوبة، والإنابة لدى الشباب اليوم، يشهده القاصي والداني معا، فالمساجد لم تعد تسع المصلّين، ودور الحفظ لكتاب الله أصبحت مكتظة بالأطفال، والمرأة المسلمة أصبحت متحجبة، ووسائل الإعلام أعطت للتوعية الدينية حظّا وافرا والحمد لله والمنّة، هذه من جهة، ومن جهة أخرى تبدّل الفهم الضيّق عن حقيقة الدين إلى الشمولية، وتفندت نظرية {القيصر للقيصر والكنيسة للكنيسة}، فقامت ثورات لتصحيح المفاهيم الخاطئة، وتأسست مؤسسات وأحزاب إسلامية تخوض معارك الإنتخابات فتفوز فيها، وتأسست على أنقاض دول علمانية دولٌ إسلامية تضرب للعالم مثلا أعلى في استقامة السياسة، وعدل الحكم، واستطباب الأمن، وكمال الإزدهار.
صحوة لم يكن في حسبان عالم الاستكبار أن الأمة ستصل إليها قطّ، صحوة أكدت لأصحابه أن العبودية والحاكمية لله تعالى، وأن الإسلام يعلو ولايعلى عليه، فغيّرت لغة التخاطب بين العالم الإمبريالي والعالم الإسلامي، فلأول مرة في تاريخ الأمّة الحديث أن يستحضر زعيم مسلم في حواره مع زعماء الاستكبار العالمي قوله تعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"([12]) وقوله تعالى" ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"([13]) وقوله تعالى: " ولاتهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لايرجون وكان الله عليما حكيما"([14]) وقوله تعالى: " إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس"([15])
قلبت الصحوةُ موازين القوى في العالم اليوم، فأصبح أساس التعاون بين زعيم إسلامي ونظيره الإمبريالي مبنيا على قاعدة الندّ بالندّ، وعلى قاعدة المصلحة المشتركة والإحترام المتبادل، وكل ذلك بفضل الله تعالى ثم بفضل اليقظة التي ملأت قلوب المتعطشين للتحرر وتحرير العباد.
انطلقت الشرارة الأولى للصحوة الإسلامية بظهور المرحوم جلال الدين، ومحمد عبده، والحسن البنا، وسيّد قطب، وأبو الأعلى المودودي والشهيد الصدر، وإلى ظهور روح الله الموسوي الإمام الخميني قُدس سره، أول من وفّقه الله تعالى في هذا العصر لفهم نظرية "الدين كلّه لله" وتطبيقها عمليّا، وهذا الفهم خيّب جميع آمال قوة الاستكبار العالمي في ترسيخ دعائم السيطرة على مقدرات الشعب الإيراني المسلم، فقامت أولى دولة تُحَكِّم شرع الله على وجه المعمورة في هذا العصر.
إنّ الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني قدّس سره، والتي أدت في نهايتها إلى إقامة جمهورية إسلامية ذات سيادة واكتفاء ذاتي في أهم مجالات الحياة، لأكبر دليل على أنّ الصحوة الإسلامية لم تعد فكرةً تودع بواطن الكتب أو حركةً تنظيميةً فحسب، وإنّما هي واقعة فرضت نفسها وستستمر تفرض نفسها. وكأولى تجربة ناجحة في هذا المضمار، عقد الغرب عزمها على عدم تكرارها في أي مكان آخر من العالم، فشنت هجوما بكل ما لديها من قوة على الثورة لقصد الاحتواء على مدّ ها وزحفها لتعم العالم الحرّ ففشلوا في جميعها، ولكنهم لم يتوقفوا ولن يتوقفوا، ولكن " فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثم يغلبون" وما هذه الثورات التي يشهدها العالم اليوم في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وغيرها من دول العالم الإسلامي إلاّ راسبا من رواسب الثورات التي سبقتها، وكل هذه الثورات تحمل شعارات تنبيء إلى قيام دول إسلامية على غرار التي في الجمههورية الإسلامية الإيرانية إذا وجهت توجيها سليما، ولقد ظهرت بوادرها بنجاح الأحزاب التي تحمل همّ الدين في جميع الدول التي انتصرت فيها الثورات وأجريت فيها انتخابات أوّلية.
ح.مهددات الصحوة
فنهاية بدايتي هي بداية نهايتي. إنّ العاطفة تفقد المتعاطف كامل وعيه وإدراكه، وهما علة النقص في حكمة المرء، والحكمة متى فقدت في شأن من الشؤون كان ذلك إعلانا لفشله الذريع. فإنّ من أخطر ما يهدد الصحوة في هذا العصر:
1. السطحية
فمن الطبيعي أن يصاحب كل نصر ونجاح شدة إقبال من قبل المترصدين له، فحين " جاء نصر الله والفتح" للنبيّ صلى الله عليه وآله دخل الناس " في دين الله أفواجا"، ومن الطبيعي أيضا أن تكون ردات الأفعال تحمل نفس القوة والسرعة للأفعال، كلّ ذلك أثّرت في سطحية كثير من شباب الصحوة، إمّا لأنّ عوامل الصحوة لم تكن مزوّدة بعامل توجيه مناسب، أو لأنّ الصحوة نفسها جاءت تلقائيا بحيث تكون ذاتية الدفع، كما يحدث غالبا في ردات كثير من الأفعال.
فبعض ما نشاهده اليوم من صحوة في بعض مناطق العالم اليوم لشبيهة بالغفوة التي أصابت العالم قبلها، لم يكن الدين- بمفهومه الشامل- في يوم من الأيام غائبا عن أذهان المجددين السابقين، أمّا صحوتنا اليوم فبالرغم من جانبها الإيجابي المتمثل في تبنّي المفهوم الشامل للدين يشوبها بعض الشكوك في المجال نفسه، فمنهج بعض شباب صحوة اليوم شبيه بمنهج من سبقوهم في زمن الغفوة، جعلوا الدين وكأنّه مؤسسة تنظيمية شبيهة بجمعية تعاونية ينال عضويتها كلّ من حفظ آية واحدة من كتاب الله أو حديثا واحدا يبلغه إلى من يليه بفهمه القاصر، لم يعد للعلم مكانة مرموقة في الدين، فالعبرة عند هؤلاء في الشكليات لا في الجواهر، فراحوا بذلك يصنفون المسلمين على أساس مسائل فقهية، فرعية يفسق البعض ويكفّر البعض الآخر.
إنّ عدم تفعيل قاعدة الولاء والبراء بشروطه وضوابطه، أحدث فجوة عميقة تهدد مسيرة الصحوة، بل هو العقبة الكعداء أمام زحفها، فالإقبال الشديد، والحماس الزائد، والتعاطف مع الإسلام الأصيل في هذا الوقت تحتاج إلى علماء مرشدين وموجهين ذوي خبرة وتجربة، وإلاّ تكون نتائجها سلبية، فلا يتصور العقل السليم بعد جهد مضنية أزيل من خلاله حكام الاستبداد وعملاء أعداء الأمة، بذل نفس الطاقة في سبيل إعادة القطار إلى منطلقها، وذلك بتجديد تحالفات أو خلقها مع عالم الاستكبار الذي كان سببا فيما أضرّ بالأمة من خلال حكامها المستبدين المدرّبين من قبلهم.
فهشاشة أساس كلّ بناء إيذان له بسقوطه لامحالة، والولاء والبراء في مسيرة الصحوة قاعدتها التي يُبنى عليها نجاحُها، فكم أُصيب المرء بدهشة ورعدة حين يرى دولة مسلمة تفضل في ولائها لدول عالم الاستكبار على أندادها من دول العالم الإسلامي، بل هي قد تبرأ من دولة إسلامية لأنّها عدوة دولة كافرة، وهي بذلك تؤكد مقولة: " عدو صديقك عدوك"، صداقة في غير محلها، فأتعجب كيف يصادق العاقل عدوه،! فأين هؤلاء وقوله تعالى:" يا أيّها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق... تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم.." ([16])وأين هم أيضا وقوله تعالى:"لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم....أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون." ([17])
2. الغلو والتطرف
فالغلو والتطرف عرض من أعراض مرض الجهل، فالجاهل يستحيل منه تحديد الحدّ اللائق لكل مطلوب، فالجاهل مسيّر من قبل عواطفه، فيزيد أو ينقص، وهو بذلك لايدري أمحسن هو أم مسىء، وفي كلتا الحالتين ينظر إلى مخالفه بعين الشك والريبة، ولايُستبعد أن يرميه بدائه وينسلت منه، لأنّ أغلب الجهلاء من صنف من "لايدري ولايدري أنّه لايدري"، وهنا يتولد الغلو والتطرف في الدين. ومن نتائج التطرف إصدار أحكام رخيصة بتفسيق الآخرين أو بتبديعهم أو بتكفيرهم لمجرد الخلاف في الرأي وفي مسالة فرعية كذلك. لم يعد عدوى داء التكفير يحتاج إلى جسم آخر صحيح، وإنّما اختصر الداء طريقه في عدواه فيظل يتنقل بين أعضاء الجسم المصاب حتى يقضي عليه دونما عناء يتكبده في رحلة يقضيها بحثا عن جسم آخرصحيح.
فالتكفير أو التفسيق كان يصدر غالبا من المتطرف إلى من يخالفه في المذهب الآخر، وأمّا الآن لم يعد كذلك، فأتباع المذهب الواحد يتبادلون تهم التكفير والتفسيق. والتكفيريعتبر من أشنع تهمة يرميها مسلم إلى أخيه المسلم، فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله بشدة، فقال فيما أورده الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال: "أيّما امرىء قال لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلاّ رجعت عليه" وفي لفظ آخر: "إذا كفّر الرجل أخاه فقدباء بها أحدهما" وعند البخاري من حديث ثابت بن الضحاك: "ولعن المؤمن كقتله. ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله"([18])
والمتطرفون حين يلجأون إلى التكفير كحلّ نهائي لمسائل الخلاف فيما بينهم، يؤكدون بذلك عجزهم علميّا على إيجاد حلّ بديل، إما لجهل فيهم أو لأن داء التطرف تمكن منهم فأصبحوا في قبضته، وإلاّ فقد كان يكفيهم: "فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا منى دماءهم وأموا لهم إلا بحقها وحسابهم على الله" ([19]) (2) ومارواه البخاري في صحيحة أن النبيّ صلى الله عليه وآله قال: من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلا تنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ماعلى المسلم "([20])
فالصومال صورة طبق الأصل فيما نحن فيه، فقد أوصلهم إلى ما وصلوا إليه اليوم التطرّف والتشدّد الدينيين، بنو جلدة واحدة، ودين واحد، ومذهب واحد وحزب واحد ومع ذلك كله يتقاتلون، ولا قتال الكفار!. والمرء حين يتأمل أمر الصومال يحتار ويتعجب كيف دمّرت الحرب مقدراتها، وساقتها إلى جميع ويلات "الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات"([21]) ومازالوا صابرين. ولايكاد المرء يصدق لوقيل: إن السبب في كل ما يحدث هنالك هو التشدد الديني الذي أدى ببعضهم إلى رمي الفسق والبدعة والكفر إلى البعض الآخر، فأين هم وقوله عليه السلام" سباب المسلم فسق وقتاله كفر"([22]) وأين هم أيضا وقوله عليه السلام "إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما" والمتطرفون منهم في ذات الوقت يوالون من حادّ الله ورسوله.
والمخيف في الأمر كله هو أنّ ذات الجوّ في الصومال اليوم يبدو مهيأ في كثير من دول العالم الإسلامي ، فالعناصر المتشددة موجودة في كلّ مكان ومستعدة لإشعال نار الفتنة في أيّ وقت لو سمحت أجواؤهم لمثل ذلك. فالحماس الديني إذا لم يصادف من يوجّهه يقود صاحبه إلى التّطرف الممقوت والمنهي عنه شرعا.
خ.الربيع العربي
تعيش الأمة الإسلامية في هذا الوقت تحولا خطيرا يترسم من خلاله مستقبلُها، وتتحدد مكانتها من بين الأمم في العالم، وأنا لست ممن يبالغون في التفاؤل لأحداث اليوم، نعم هي ثورات تحمل في طيّاتها شعارات براقة تبدو في ظاهرها أنّها لصالح الإسلام، ولكنني لن أتنفس سعيدا مالم تكن كفّة الإسلام تحمل أكثر وزن فيها من غيرها، وما لم تظهر بوادر الترجيح لصالح الإسلام، أو بعبارة أخرى، مالم يظهر في الساحة علماء ربّانيون بأيديهم فرص الترجيح والانتصار للصحوة. إن المتابع لهذه الثورات في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن وغيرها يمكن أن يستخلص منها علتين:
الأولى: العفوية.
نعم للثورات بوادرها وإرهاصاتها، سواء ما ينسب منها إلى العدو الوهمي أو إلى العدو الحقيقي، أو ما ينسب منها إلى الطبيعة، لكون الثورة من نتائج الضغط الشعبي وحرمانه من حقوقه الأساسية، ونعم فقد تنفّس الإسلام في بعض الدول التي اشتعلت فيها نار الثورة سعيدا لما كان يعاني من مضايقة وكبح لدى حكامها، ولكن ثورات كهذه، بضخامتها، وما تحمل من معنى في نظرية [النظام العالمي الجديد] على الصعيد الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي لايُكتب لها نجاح في غياب تنظيم دقيق مسبق، وهو ما لايظهر لي في هذه الثورات- وإن كنا نبارك بعضها ولله الحمد والمنّة-. فكأنّها هبة رياح تمرّ بالمنطقة لبعض الوقت، ولا نجد ما يضمن لنا نجاحها في تحقيق أهدافها. ومما يدل على عفويتها وتلقائيتها أيضا، أنّها تحرق الأخضر واليابس، فقد هبّ شباب العالم العربي هبةّ رجل واحد في أكثر من دولة لتغيير أنظمتها السياسية غير عابئين بالنتائج السلبية التي ستجنيها الأمة من سقوط بعض تلك الأنظمة، فلو كانت الثورات مدروسة ومخططة من قبل خبراء من رجال الصحوة الصحيحة لجعلوا كل خطوة في الحسبان، ولأبقوا بعض النظم التي جعلت أنفسها سدّا منيعا أمام العدو المشترك الصهاينة والاستكبار العالمي، ولكن لسوء الحظ لم يحظ التفكير ولا التخطيط حظا في أغلب هذه الثورات.
الثانية: تأثير الغرب
ومما يقوي جانب تشاؤمي- وإن كان ممقوتا- هو بقاء التأثير الغربي في توجها ت بعض الثوار وفي قراراتهم، فحين نجح الثوار في مصر، وأصبح ميزان القوة في صالحهم، كادت الأمّة أن تطير فرحا، وكادت أن تجمع على أنّ هذا النصر سينعكس إيجابا في صالح قطاع غزة بفلسطين، وأن معبر رفح سيعاد فتحه من غير شرط ولا قيد، ولكن الواقع ظهر خلاف ذلك، فلو كانت الثورة المصرية بكليّتها نتيجة لصّحوة إسلامية صحيحة، كما يبالغ البعض في اعتقاده، لكان لقطاع غزة أوفر حظ منها، ولكن تلك التوقعات لم تزل مفقودة.
وأمّا تدخل "نيتو" الغربية في ليبيا مباشرة، وعدم تدخلها في اليمن، وعدم وصف ما يحدث في البحرين صحوة، وتأييد ما يحدث في سورية أو تسميتها صحوة، لَيُضاف هو أيضا إلى التأثير الغربي في مسارات ثورات العالم الإسلامي وفي أهدافها، فالكلّ يجمع على أنّ جور السلطان والاستبداد والطغيان الناتج عن وداد من حادّ الله ورسوله من الغرب ومن قوة الاستكبار كان هو العامل الأساس في انفجار جميع الثورات في العالم الإسلامي بما فيها ثورة الإمام الخميني قدس سره، ولكنّ المشكلة في توجيه مساراتها وتوظيفها لتكون صالحة للإسلام وأمّته، فكلّ مراقب لما يجري في الساحة يرى عمليّة المدّ والجزرالتي تشهدها الثورة في مصر بين الثوار وبين فلول نظام المخلوع المتأثرين بالفكر الغربي. فهل للثورات المنتصرة حرية مطلقة في اختيار شريك سياسيّ واقتصاديّ وتقنيّ من بين الدول الإسلامية ،؟ وهل هيّ فعلا ترغب في الشراكة مع دول إسلامية لايجمعها معها معسكر سياسيّ أو أمنيّ واحد، أو لايتّحدان في مذهب فقهيّ واحد؟.
هنا تأتي مسألة توحيد الله تعالى في الولاء والبراء لتكون هي الميزان في التعاون بين الدّول والشّعوب الإسلامية عامة وبين الحكومات المتأسسة بعامل الثورات والدول الإسلامية عامة بصفة خاصة، فإذا كانت دولة إسلامية تفضل التعاون والتبادل التجاري مع دولة غير إسلامية، في وقت يمكن للدول الإسلامية توفير جميع احتياجاتها بنفس الجودة وبأقل تكلفة، أوكانت دولة إسلامية تؤيّد الغرب وعالم الاستكبار في حربها النفسية والإقتصادية والتقنية ضد دولة إسلامية أخرى، فثمّ موالاة من حادّ الله ورسوله المنهي عنها في سورة المجادلة، وثمّ الولاء لمن لايجوز ولاءه شرعا، وثمّ البراء ممن لايجوز البراء منه شرعا. والأمة مادامت تهمل عنصر التوحيد في الولاء والبراء، فمن المستبعد أن تحالف ثوراتها نجاحاتٌ تسجل في دفتر الصّحوة الإسلامية التي نحن بصدد الحديث عنها. وإذا سمحت الأمّة أن يكون للغرب ولقوى الاستكبار العالمي وللصهاينة تأثيرا في رسم الخارطة السياسية والاستراتيجية للعالم الإسلامي فلتعلم أنّها مهددة في وجودها وبقائها معا.
نسأل الله العلي القدير أن يلهم الأمّة الإسلامية رشدها وأن يبارك في مساعيها، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم و