الردّة الفقهية : المرأة نموذجا
الردّة الفقهية : المرأة نموذجا
حيات بوكراع
تمهيد:
لا يمكن الحديث عن واقع المرأة إبّان البعثة المحمديّة دون الحديث عن حالة الاضطهاد والتهميش التّي كانت تعيشها في الفترة الجاهليّة. يقول الإمام فخر الدين الرّازي " كان الرجل إذا ولدت له بنتا وأراد بقاء حياتها ألبسها جبّة من صوف أو شعر لترعى له الغنم أو الإبل وإن أراد قتلها تركها حتّى إذا بلغت ستة أشبار يطيّبها ويحفر لها حفرة ويرميها داخلها "[1] كما أضاف في تفسير قوله تعالى: { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ** بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ }[2] وكانوا يبرّرون ذلك بادّعائهم أنّ الملائكة بنات الله فألحقوا البنات بالملائكة ولم يكن ذلك من المروءة بمكان لذلك قال الفَرَزدَق:
ومنّا الذي منع الوائدات --- فأحيا الوائدات فلم توأد"[3].
والحقيقة أنّ الوأد كان من ناحية خوفا من الإملاق وقد نهاهم القرآن عن ذلك { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ }[4] كما كان من ناحية أخرى خوفا من سبي للّنساء وما ينجرّ عنه من العار ضمن واقع اتّسم بغياب الأمن والاستقرار وبسطْو القويّ على الضعيف.
ولعل العديد من الأمثال والمقولات في التراث العربي تبين مدى حجم الاستضعاف والتهميش الذي كابدته المرأة طيلة عهود وقرون حيث اشتهر بين العرب حين التهنئة بالبنت مقولة " آمنكم الله عارها وكفاكم مؤنتها وصاهرتم قبرها" كما اشتهرت ما قاله أعرابي يخاطب والدا يدفن ابنته " القبر صهر فنعم الصهر صاهرتم "و قيل ايضا "دفن البنات من المكرمات".
جاءت الرسالة الخالدة فكانت نقلة نوعية لوضعية المرأة بسنّ جملة من التشريعات أحدثت وعيا غير مسبوق بمسألة حقوق المرأة و هذا ما أكّده الصحابة في قولهم "كنا في الجاهلية لا نعد للنساء شيئا فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا الحق"[5] إلاّ أنّ المرأة بقيت تتكبد تبعات النظرة الدونية الموروثة ولم تتمكن هذه التشريعات الرائدة التي جاء بها الإسلام من القضاء على انعكاساتها طيلة قرون.
ظهر ذلك جليا بعد الردّة المفاهيميّة التي عرفتها الأمّة حيث وجهّت هذه النظرة عدة اجتهادات وأحكاما فقهية كانت مبتدعة وبعيدة عن روح الإسلام.
تحاول هذه الورقة بيان الأسباب العميقة وراء ديمومة هذه النظرة من خلال قراءة الفقهاء للعديد من المفاهيم الأساسية ذات العلاقة بالمرأة و تـأثير عن ذلك في سنهم لمجموعة من الأحكام الفقهية وما انجر عن ذلك من تهميش لدور المرأة في الحراك الحضاري للأمة.
هل خلقت المرأة من ضلع الرجل
تجد التبعيّة والدونيّة مبرّراتها بالقول أن "المرأة خلقت من ضلع الرجل" بل ويستشهد البعض بحديث لا أصل له يدّعي أنّ "المرأة كالضلع إن قومته كسرته فدعه تستمتع به على عوج" و لئن وقف المفسّرون عند قوله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا }[6] وتعرّضوا لمسألة خلق حوّاء من ضلع آدم. فبينما ذهب الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور إلى ما اتّفق عليه معظم العلماء من أنّ " حواء خرجت من ضلع آدم كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى "منها" عارض الإمام الفخر ذلك ورأى أنّ الأصل في قوله تعالى وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي من جنسها وهو كقوله تعالى { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }[7] وكقوله تعالى { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ }[8] وكقوله سبحانه { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }[9].
واضاف الإمام الفخر موضحّا فكرته في هذا الخصوص قائلا "لمّا ثبت أنّه تعالى قادر على خلق آدم من تراب كان قادرا على خلق حوّاء من التراب ولذا فأيّ فائدة من خلقها من ضلع آدم"[10] وأضاف مؤكّدا أنّ "خلق الشيء من الشيء محال في العقول لأنّ هذا المخلوق ـ المرأة ـ إن كان عين ذلك الشيء -الرجل – الموجود لم يكن هذا مخلوقا البتّة فلم تكن امرأة بل كانت عين ما كان موجودا ولذا امتنع أن يكون مخلوقا من شيء آخر لذا إنّ هذا المخلوق مغاير للذّي كان موجودا قبل ذلك فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنّما حدث وحصل عن العدم المحض ومن هنا تفيد ابتداء الغاية على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار بل على وجه الوقوع فقط "[11].
أكّد القرآن الكريم على مساواة الجنسين في العبودية لله وفي القيام بالشعائر الدينية وفي أداء الواجبات المجتمعيّة فقال عز وجلّ: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[12] كما أكّد تعالى على أن الأمانة أمانة الخلافة { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [13]تخص الإنسان بجنسيه وقد أعلنها سبحانه مدوية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.[14]
في هذا السياق نؤكد على أنّ ما جاء على لسان حنّة بنت عمران أم مريم عليها السلام في قوله تعالى { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [15]كان ضمن إقرار لحقيقة بيولوجية ولا تعني في أي حال التمييز أو التفضيل لجنس على آخر بل مثلت توصيفا لحقيقة موضوعية على شاكلة فهمنا لقوله صلى الله عليه وسلم "نحن أمة أمية" بأنّه توصيف لواقع ضمن لحظة تاريخية ولا يعني البتة أن الأمية حتمية ملازمة للمجتمع العربي.
وقد وقف الإمام الفخر عند قوله تعالى { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى } واعتبر أنّ ذلك لم يكن استنقاصا من قدر الأنثى كما ذهب إليه بعض المفسّرين بل تأكيدا على استغراق امرأة عمران في معرفة سعة عطاء الله وجلاله مدركة أنّ ما يفعله تعالى بالعبد خير ممّا يريده العبد لنفسه فليس الذكر الذّي أرادت كالأنثى التّي وهبها لها الخالق كأنّها تقول "الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى وليس الذكر الذّي يكون مطلوبي كالأنثى التّي هي موهوبة لله وهذا الكلام يدلّ على أنّ تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأنّ ما يفعله الربّ بالعبد خير ممّا يريده العبد لنفسه"[16].
و هكذا فالقرآن بقدر ما كان يعالج القضايا المصيرية ذات المنحى الإنساني العام بقدر ما كان يعالج القضايا القريبة التي تخص المسلم في أدق خصوصيته وتشعره بالقرب الإلهي والحضور الرباني وتلك منة يمنّها الله تعالى على تلك الفئة المؤمنة.
لقد جسّم الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المنحى الإنساني في دعوته لبني عبد المطلب عامّة وأصرّ أن يخصّ بالنداء نساء قومه إذ قال " يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله يا صفيّة عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله فإني لا أغني عنكما من الله شيئا ". يذكر التاريخ أن فاطمة أخت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما كانت سببا أوّلا ومباشرا في دخوله الإسلام تلك هي مواصفات المرأة التي أرادها صلى الله عليه وسلم وهي التي سارعت بالاستجابة للنداء الرباني وهي التي" إن أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق "[17].
المرأة بين التشريع والموروث
منع الإسلام الوأد وأرسى رؤية إنسانية أخلاقية لا ترى لجنس على جنس فضل إلا بالتقوى لكنّ المجال الفقهي بقي تحت ثقل التقاليد والعادات على حساب النصي القرآني والحديثي وما جاءت به هذه النصوص من مقاصد ولم يول هذا المجال للمرأة مكانة أسمى ولا قدرا أعلى حيث سادت نظرة تتماهى مع الموروث الجاهلي الذي بقي متغلغلا في أعماق الذات العربية ذات المنحى الذكوري بل والأخطر من كل ذلك فقد اعْتُبرت تلك الاجتهادات الفقهية حقائق مطلقة لا مجال للنظر فيها أو نقدها أو نقضها والأمثلة أكثر من أن تحصى.
يقول الإمام الشافعي" ثلاثة إن أكرمتهم أهانوك وإن أهنتهم أكرموك المرأة والخادم والنبطي"[18]كما يقول ابن حزم" يقطع صلاة المصلي مرور الكلب أو الحمار أو المرأة".[19] ويقول بن الجوزي وهو يتكلم عن الطرب والتصفيق " وفيه ايضا تشبّه بالنساء والعاقل يأنف من أن يخرج عن الوقار إلى أفعال الكفار والنسوة "[20].
انحصرت النظرة إلى المرأة في جمالها ولا مكانة لها في الفصاحة ولا في الكتابة ولا في السياسة فقالوا " ما رأيت على امرأة أجمل من شحم ولا رأيت على رجل أجمل من فصاحة"[21] كما يقول الشاعر في هذا السّياق:
ما للنساء وللعمالة ** والخطابة والكتابـة
هـذا لنا ولهن منـا ** أن يبتن على جنابة
ويقول شاعر آخر:[22]
تكره ذكر الله في بيتها ** وهي إلى الفحشاء مشتاقة
إن ذُكر الخير فمالها ** من جمل فيه ولا ناقة
مقدامة في الشر سباقة ** وفي تقى الله على الساقة
إن ملــكا تسوسـه ** أم موسى وفاطمة
لجديــر بأن ترى ** ربة البيت لاطمة
وقد نُسبت عدة أقوال للرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد المحقّقون على ضعفها أو وضعها لكنها مع ذلك احتلت موقعا مهما في الفضاء الفقهي واعتمدت في التشريع منها "إذا أراد الله بقوم سوءا جعل أمرهم إلى صبي أو امرأة" أو "ما تولت امرأة أرضا إلا خُربت" أو " شاورهن وخالفهن" أو "جنبوهن الكتابة" وفي النهاية فلا غرابة ان ّنرى من ينسب للرسول صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف مقولة أنّ " للمرأة عشر عورات فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة فإذا ماتت ستر القبر العشر عورات"[23].
المرأة والمجال السياسي
إن المهام السياسية وبالذات مهمة الرئاسة والحكم تستوجب مواصفات وأخلاقيات ليست في متناول كل إنسان رجلا كان أو امرأة إلا أن هذه المواصفات تكتسب بالدرجات العلمية و بالتجارب والمساهمات وتحمّل المسؤوليات الفاعلة داخل المؤسّسات وقد بينت الأحداث والأمثلة عبر التاريخ أن قدرة المرأة على التسيير ونجاحها في المهام العامة لا تقل عن قدرة الرجل وأنّ الحنكة والحكمة والتجربة والأخلاقيات المتّبعة تبقى المحدد الرئيسي لنجاح الفرد او إخفاقه رجلا كان أو امرأة.
يذكر ابن سعد في طبقاته أن عائشة رضي الله عنها كانت "اعلم الناس وأن كبار الصحابة كانوا يسألونها" وعن أبي سلمة رضي الله عنه قال" ما رأيت أعلم بسنن رسول الله من عائشة ولا أحد أفقه في رأي إن احتيج إلى رأي من عائشة".
وقد سمح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمّ حرام ركوب السفينة مع زوجة معاوية في فتح القسطنطينية ولقد توفيت رضي الله عنها بعد ذلك ودفنت في قبرص كما أنّ أسماء بنت يزيد رضي الله عنها -وهي من المبايعات في العقبة – قَتلت في معركة اليرموك تسعة من الروم بعمود خيمتها كما روى مسلم عن أم سليم رضي الله عنها اتخذت يوم حنين خنجرا فكان معها تحمله باستمرار فرآها أبو طلحة فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فسألها عنه فقالت أتخذه إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم كما قاتلت نسيبة بنت كعب الأنصارية في جيش المسلمين في معركة اليمامة ثأرا لابنها حبيب ابن زيد.
المرأة و الشأن العام:
يدعو بعض الفقهاء إلى تحريم خروج المرأة من بيتها إلا لضرورة ملحّة ويرفضون تحمّلها لأيّة مسؤولية اجتماعية اعتقادا منهم في صحة الحديث القائل بنقص عقل المرأة و نقص دينها وفي دونيتها وتبعيتها للرجل من جهة وفي قراءة مجانبة للصواب في قوله تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [24]من جهة أخرى.
إنّ المتأمل لقوله تعالى "وقرن في بيوتكن" لا يفوته التأكيد أن الخطاب يأتي ضمن مقام النبوة ونورد في هذا السياق ما ذهب إليه المفكر الإسلامي المعاصر سامر الاسلامبولي اذ قال "أن الخطاب الموجه إلى مقام النبوة صراحة أو ضمنا يكون خطابا تعليميا وتوجيهيا للأحسن والأفضل بينما يتضمن خطاب الرسالة أوامر وتشريعات إلهية وتكليف وتبليغ"[25] فالأمر إذن موجَّه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وهنّ أمهات المؤمنين لهن أحكام تخصهن بحكم مكانتهن ومقامهن في حياة النبي { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً } [26] وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا "إلاّ أنّ قوله تعالى "وقرن في بيوتكن "لا تعني حبسهن ومنعهن من الخروج .
لقد أدركت أمهات المؤمنين والصحابيات رضي الله عنهن بصفة عامة ما أنيط بعهدتهن فكن يساهمن في الغزوات ويتزاورن ويعدن المرضى وقد كانت عاتكة بنت زيد زوجة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تشهد الصلاة في المسجد وتصرّ على ذلك وكان عمر يقول لها والله إنّك لتعلمين أني ما أحب هذا فقالت والله لا أنتهي حتى تنهاني لكنه لم يتجرأ على ذلك وقال إني لا أنهاك وقد قُتِل رضي الله عنه وهي في المسجد.
إنّ المتأمل كذلك لحياة الأمراء وبناتهم ولنساء الطبقات الحاكمة يدرك خلفية الدعوة الربانية في جعل نساء النبي وأهل البيت قدوة وفي هذا الإطار نورد أن الرسول صلى الله عليه السلام لما طلبت منه ابنته فاطمة عليها السلام أن يمنّ عليها بمُعينة رفض أن يفضّل ابنته عن غيرها من نساء المؤمنين حيث خاطبها وزوجها علي رضي الله عنه فقال " الا أدلكما على خير مما سألتماه إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا الله أربعين وثلاثين وأحمدا الله ثلاثا وثلاثين وسبحا الله ثلاثا وثلاثين فإنّ ذلك خير لكما "[27] وكان يقول "رحم الله رجلا قام من الليل فصلّى وأيقظ زوجته فإن أبت ضخّ في وجهها الماء ورحم الله امرأة قامت من الليل وأيقظت زوجها فإن أبى ضخّت في وجهه الماء" وقد استوصى عليه الصلاة والسلام بالنساء خيرا في حجة الوداع وأكّد على حريتهن فقال "إنهن عوان عند الرجال لا يملكون منهن شيئا غير ذلك".
أمّا ما فُهِم من نقص الدين والعقل فيما نسب للرسول صلى الله عليه السلام في قوله " يا معشر النساء تصدّقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقالت امرأة جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن قالت يا رسول الله وما نقصان العقل والدين قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين"[28] فقد بينت الدراسات أن الحديث لا يرتقي إلى الصحة وأنّ الكلام يعود للصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه[29] .
وفي المحصلة فإن الرسول صلى عليه وسلم الذي يقول "أن الجنة تحت أقدام الأمهات" و"أنه ما أكرمهن إلا كريم وما أذلهن إلا لئيم " لا يمكن أن يعتبر المرأة ناقصة عقل أو ناقصة دين خاصة و أن القرآن قد صدح بها دويّة " { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا }[30]
المرأة وتعدد الزوجات:
قبل الخوض في تعامل الإسلام مع مسألة تعدد الزوجات يُستحسن التذكير بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه منع علي كرم الله وجهه من الزواج على فاطمة عليها السلام.
لقد انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم لابنته وكره أن تؤذى ولم يرض لها الهوان فلماذا لم يعتبر الفقهاء هذا الموقف سنة نبوية تقريرية ولماذا لم يُبْنَ على هذه الحادثة حكما يسمح بمنع التعدد أو تضييقه عبر التاريخ .
لقد كان من المروءة ألاّ يتزوج الرجل على زوجته إن حظيت عنده بالقدر الكافي من الاحترام والحب وقد كان ذلك متداولا داخل العائلات الحاكمة فأصهار الخلفاء والسلاطين لم يكن يسمح لهم بالتعدد فمن باب أولى وأحرى أن نمنعه العوام خشية الإملاق وكثرة العيال وحدوث الخصومات وما قصة أبناء يعقوب عليه السلام منّا ببعيد.
يقول الشهرستاني وهو يتعرض لإسماعيل بن جعفر الصادق " لم يتزوج الصادق رضي الله عنه بواحدة من النساء ولا تسرّى بجارية كسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها وكسنّة علي رضي الله عنه في حقّ فاطمة رضي الله عنها"[31].
رغم هذه الأمثلة الناصعة في تاريخنا فإن ذلك لم يمنع المؤرخين من التأكيد أن علي رضي الله عنه لم يكتف بعد موت السيدة فاطمة عليها السلام بالزواج بل عدّد فيه وكأنه عاش حالة من ردّة الفعل وهو لعمري تجني على الصحابي الجليل كما اعتبر البعض من هؤلاء المؤرخين سبط الرسول صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما بأنّه " كان منكاحا حتى أنه نكح زيادة عن مائتي امرأة وكان ربما عقد على أربع في وقت واحد وربما طلق أربعا في وقت واحد واستبدل بهن"[32] وكأن محور اهتمام الحسن رضي الله عنه لا يتعدى الزواج والجنس وإشباع النزوات وأنه لا يدرك أن الجنس هو وسيلة لا غاية و ما كان هذا من خلق أسباط رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من شيمهم.
وفي تأويل قوله صلى الله عليه وسلم " حسن مني وحسين من علي " تجرأ بعضهم إلى الادعاء بأن وجه الشبه بينهما يكمن في كثرة النكاح حيث قالوا " إنّ كثرة نكاحه أحد ما أشبه به خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم"[33].
وفي الرد على مثل هذا الكلام فإننا نقول أنّه بالرغم من ارتباط آية التعدد { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاث وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا }[34] ارتباطا وثيقا بالقسط والعدل في المجال الخلقي من جهة وباليتم في المجال الاجتماعي المعاش من جهة أخرى فإنه لم يحدث الوقوف عليها كثير اختلاف بين المفسرين. عبر عن ذلك ابن عباس رضي الله عنهما بقوله "كانت العرب تتحرّج في مال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء فكانوا يتزوجون العشر"[35]. و لعله يستنتج من كلام ابن عباس في ربطه بين تعدد الزوجات و الظلم اعتراف ضمني بأنّ العرب يجب أن تقلع عن التعدّد لاستحالة العدل بين الّنّساء كما أقلعت عن أكل مال اليتيم وأن تقرّر بأنّ التعدّد ظلم وجور والظلم ظلمات لا قبل للمسلم بها .
لقد اشارت هذه الآية إلى ارتباط نكاح المسلمات اليتامى بالعدل وهو الشرط في قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى و نبّه الله المؤمنين بأن الكفالة ليست تعلّة لاستغلال المرأة {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا}[36] وأنّ الظلم كلّ لا يتجزأ فكما نهى الله تعالى عن أكل مال اليتيم جعل الزواج من اليتيمات طمعا في أموالهن ظلما وجورا.
من هنا لم يقيّد الشارع التعدد بكفالة الأيتام فقط بل نبّه أن يكون ذلك مجالا لاستغلال النساء وقد جاءت شكوى زوجة سعد بن الربيع للرّسول صلى الله عليه وسلم لتمثّل مسألة كفالة المرأة إشكالا لا يبتعد عن مسألة كفالة اليتيم. روى الترمذي وأبو داود وبن ماجة قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع للرسول صلى الله عليه وسلّم فقالت إنّ سعدا هلك وترك ابنتين وأخاه فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد وإنّما تنكح النساء على أموالهنّ ..."[37]
يرى ابن عاشور أنّ الآية لم تكن لتشريع الزواج أو ضبطه بقدر ما كانت موجهة لمنع الجور والظلم على النساء.
في هذا السّياق, يذهب الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور إلى "أن قوله تعالى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا } تريد أن تقول لراعي اليتيمة بوضوح النساء كثيرات " مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ "ْ فاتركوا اليتيمات خشية الظلم وعدم النجاح في إعطائهن حقهن وتزوّجوا من أخريات كما يضيف ابن عاشور " مثنى وثلاث ورباع " فيقول:" لا يجوز كونها أحوالا من النساء لأن النساء أريد بها الجنس والمعنى أنّ الله وسّع عليكم فلكم في نكاح غير أولئك اليتامى مندوحة عن نكاحهن مع الإضرار بهن "[38] ويؤكد كذلك أن "الآية لا تدلّ على العدد المسموح به إنما يُستأنس بها والضبط كان بالحديث في قوله صلى الله عليه وسلم أمسك أربعا وفارق سائرهن"[39]. كما يؤكّد الشيخ الطاهر بن عاشور على هذا المقصد فيقول "لعل الآية صدرت بذكر العدد في الواحدة "[40] كما يقول "يجوز أن تكون الإشارة إلى الحكم المتضمن له قوله فواحدة أو ما ملكت أيمانكم فالتعدّد يُعرّض صاحبه للجور"[41].
وفي المحصّلة فإنّ انتقال الآيات من الحديث عن اليتامى عامّة للحديث عن زواج اليتامى ينبّه إلى عدّة محاذير نوجزها في ما يلي:
-لا مجال لاستغلال مال اليتيمة وجمالها وشبابها وتزويجها من غير الكفء الذي لا يستحقّها ولا مجال لإجبار البنت على الزواج ممّن يتولى كفالتها كما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تزويج الصغيرات " إنّها صغيرة وإنّها لا تزوّج إلاّ بإذنها"[42] وقد كان زواج الصغيرات أمر متعامل به قبل الإسلام واستمرت العرب عليه.
-لا مجال لترك اليتيمة دون زواج مخافة أن تستردّ أموالها بزواجها من غير متكفّلها لأنّ المتكفّل كان إن لم تعجبه البنت اليتيمة وكرهها منعها من الزواج.
-لا مجال للزواج باليتيمة دون إعطائها حقها في الصداق بضم مالها إلى مال المتكفل { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }[43] وأوجب بذلك إعطائها الصداق المتعارف به. وبالتالي فإنّ تكفّل الرجل لليتيمة لا يخوّل له ظلمها والتصرف في أموالها وهضم حقوقها و الزواج منها يكون بمعزل عن كونها تحت الكفالة من جهة و رغبة فيهن من جهة أخرى مع ضرورة توفير كل حاجياتها وألاّ يكون مهرها من مالها.
لقد ذهب ابن عاشور إلى أن الآية جاءت لتؤكد على الابتعاد عن الظلم وأنه لم تُعدم النساء " ليست قليلات " حتى يضطرّ الكفيل للزواج من اليتيمة التي يتولى التصرف في مالها فإن اتفقا على ذلك ورغبا فيه كان لهما ذلك ولكن بضوابط.
أما الإمام الفخر فقد رأى أن هذه الآية تؤكد على أن المخالطة المندوبة إنّما هي في اليتامى الذين يجب أن يُعاملوا معاملة الإخوان وتشجيع الزواج بهن لكفالتهن " فاليتامى الذّين هم لكم إخوان بالإسلام أولى أن تنكحوهن لتأكيد الألفة" بل لقد رجّح الإمام الفخر ما ذهب إليه بعض العلماء "من أنّ مخالطة الأموال تعني المصاهرة في النّكاح وهن أولى بالزواج من غيرهن ممن تعجبكن وقد منع عمر رضي الله عنه الصحابة من الزواج من النصارى مخافة أن يقلّل ذلك من حظ المسلمات في الزواج"[44] كما ذكر الإمام الفخر أنّ الله تعالى نبّه في هذه الآية من السقوط في الظلم بقوله" ذلك أدنى ألاّ تعولوا" أي ألا تعدلوا و لا تجوروا ويَصِل بالإمام الفخر إلى القول "اختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا فإنّ الأمر يدور مع العدل حيث دار"[45].
لقد وقف البعض كثيرا عند استعمال القرآن لحرف " أو ّ" وأو لا تعني العطف ومن هنا فقوله تعالى "أو ما ملكت أيمانكم" لا تعني الجمع بين الزوجة وما ملكت الأيمان بل تعني الالتجاء لملك اليمن إذا تعذر الزواج من الحرة من ناحية وبضرورة الاكتفاء بزوجة واحدة إن تمكن من تحقيق ذلك من ناحية أخرى. في هذا السياق يقول سامر الاسلامبولي" لو كانت عملية الإشراك بالنكاح هي المقصودة من الشارع بين الزوج وملك اليمين لاستخدم تعالى و وهذا يدل على تحريم اجتماع نكاحين في جهة واحدة للرجل والمرأة فيحرم على كليهما الاشتراك في عملية النكاح"[46] فملك اليمين ظاهرة اجتماعية واقتصادية وجدها الإسلام وتفاعل معها في سعي دؤوب لتقليصها ضمن رؤية سلوكية تجعل العمل الصالح والتقوى والنية الصادقة معايير للتفريق بين الخلق.
لفد حدّد الإسلام عدد الزوجات ثم فتح باب التمتّع بملك اليمين لمن أعوزته الحاجة عن توفير الزوجة وخاف العنت فالرجل يختار امرأة غير متزوجة للمتعة و يكتفي بها والبقية تكون فقط ضمن حق الانتفاع خدمة وعملا دون حق الممارسة الجنسية[47]. من هنا فإنّ حرف " أو " لم يأت بدلالة التخيير إنما جاء بدلالة التقسيم بدليل قوله تعالى في سورة المؤمنونˆ.{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ }[48].وقوله تعالى في سورة الأحزاب { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُـمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْـكَ حَـرَجٌ وَكَـانَ اللَّـهُ غَفُـوراً رَحِيـماً}[49] لم يكن في تقرير النكاح أو نفيه فالكلام جاء لإشراك المعطوف في المعطوف عليه بالكلام نفسه من ذكر الأحكام لهما ولكل حكمه فالزوجة غير ملك اليمين"[50].
وفي المحصلة فإنّنا أمام مرحلتين مختلفتين "بداية القرن السابع الهجري مع الإمام الفخر وأواسط القرن الرابع عشر الهجري مع الإمام محمد الطاهر بن عاشور حيث ذهب الأول إلى وجوب اختيار زوجة واحدة وترك التعدد لأنّ العدل بين الزوجات مستحيل ومنع الثاني التعدد بلمحة لطيفة فُهِم ضمنها فهما لا يمتّ إلى التعدد بصلة.
إنّ الفهم السائد انتصر للتعدد عبر تاريخ الأمة لكنّ ذلك لم يحل دون ظهور فترات خرجت فيها المرأة من حالة التهميش والدونيّة -وإن اقتصر ذلك في أوساط ارستقراطية –حيث رفض تعدد الزوجات. مثال ذلك ما ورد عن زواج الخليفة أبو جعفر المنصور من أروى القيروانية بالشروط في الصداق المتعارف عليه بالصداق القيرواني وما ورد كذلك في زواج سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما بنفس الشروط تقريبا.
يقوم الصداق القيرواني على اشتراط منع الرجل أن يتّخذ زوجة ولا جارية وإن فعل يكون أمر الزوجة بيدها ولها أن تطلّق كل زوجة دخيلة على حياتها وتعتق الجواري التي بيد زوجها. ينصّ هذا الصداق على ما يلي: "هذا ما أصدق فلان ابن فلان زوجه فلانة بنت فلان أصدقها كذا وكذا دراهم بدخل أربعين من الضرب الجاري بقرطبة في حين تاريخ هذا الكتاب نقدا وكالئا النقد كذا قبضها لفلانة من زوجها فلان إذ هي بكر في حجره وولايته نظره وصارت بيده ليجهّزها بها إليه وأبرأه منها فبرئ و الكالئ كذا دينارا مؤخرة عن النكاح ومؤجلة عليه ... والتزم فلان ...طائعا متبرعا استجلابا لمودّتها وتقصيّا لمسرتها ألاّ يتزوّج عليها ولا يتسرّى معها ولا يتخذ أم ولد فإن فعل شيئا من ذلك فأمرها بيدها والداخلة عليها بنكاح طالق وأم الولد حرّة لوجه الله العظيم وأمر السريّة بيدها إن شاءت باعت وإن شاءت أمسكت وإن شاءت أعتقت عليه"[51].
هذا المنحى يؤكده قول الرسول صلى الله عليه وسلم " إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها"[52] فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك المجال للرجل يتزوج كيفما أراد بل نظّم الشهوة واقتصر على تلبيتها عند الزوجة.
لقد أكّد الإسلام أن المقصد من الزواج جليّ وواضح ويتمثل في تحقيق التوازن النفسي والجنسي وإشباع الرغبة لا تكون إلا في أطر شرعية تحصن وتساهم في حفظ النسل وذلك ضمن إقامة الأجواء العائلية التي يسودها الأمان والاستقرار وتوجيه الاهتمام لنشأة الإنسان المؤمن الموحّد الفاعل وما نظن ذلك متاحا متى كان همّ الرجل الأساسي إشباع الشهوة البهائمية والاقتراب من السلوكيات الحيوانية.
فالقرآن الكريم أكد على عمق الرباط في العلاقة بين الرجل والمرأة ووصفها باللباس والسكن والمودّة كما أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ربط العفة بدين الإنسان بقوله "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه الله على شطر دينه" وبقوله "من تزوج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في النصف الثاني"[53] أو بقوله من "نكح لله أو أنكح لله استحق ولاية الله "[54].
إن المقاصد السالف ذكرها تتقلص وتندثر في حالة وجود نساء كثيرات في حياة الرجل أما إذا أضاف هذا ألأخير ملك اليمين وجمع بينهن فحدّث ولا حرج فعن أية عائلة نتكلم وإلى أيّ أمان واستقرار نرنو؟ وما الفرق بين الإنسان وبين الحيوان إذا كانت الشهوة هي المحرك الوحيد له ؟ وعن أيّ جيل وعن أيّة أسرة سنتكلم والأب لا همّ له إلا اتباع نزواته؟
إذا كان لا بد من اتباع الهوى وإشباع الشهوة للرجل فما هو حقّ المرأة الجنسي؟ كيف سيوفر لها حاجياتها والحال أنّه يمكن أن تنتظر عدة أشهر ليمنّ الرجل عليها بلقاء وهل يسمح لها باتخاذ أخدان لتحقيق رغبتها في ظل المساواة التي جاء الدين لترسيخها " كلكم من آدم وآدم من تراب "و "لا فرق بين أعجمي ولا عربي إلا بالتقوى".
مرّة أخرى نتساءل عن مساحة الاهتمام الموكولة للأبناء وكيف نضمن إنشاء جيل يدرك مفهوم العطاء, جيل متوازن في شخصيّته وتربيته, بار ومستقيم خاصة على أيامنا هذه ؟ حيث تتعدد وسائل الاستقطاب للشباب أم سيتوخى الرجل سياسة الاستبداد العائلي وما سيتولد حتما من ظلم وتناحر.
الردة الفقهية
لقد أشرنا فيما سبق إلى إدراك الصحابة للدور المناط بالمرأة في ظل الرسالة العادلة وتكرار ذكر القرآن لهذا الدور لكن الوجه السائد للمرأة عبر التاريخ العربي الإسلامي حصر دورها في تلبية شهوات الرجل وسيطرت النزعة الذكورية فحدثت ردة قوية غيبت النظرة القرآنية الرائدة للمرأة "وصل الأمر إلى حدّ الاختلاف بين الشافعي وأبي حنيفة حول غسل الزوج لزوجته فذهب الشافعي إلى أنه يجوز للزوج غسل زوجته لأن الشرع سماها زوجته { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ }[55] وقال أبوحنيفة لا يجوز وقد احتج على ذلك بأنها لم تعد زوجته ولا يحل له غسلها لأنها لو كانت زوجته لحلّ له بعد الموت وطأها"[56].
يقول صاحب كتاب الفقه في المذاهب الأربعة" الحقّ في التمتّع للرجل لا للمرأة, للرجل أن يجبر زوجته على الاستمتاع بها بخلافها فليس لها جبره إلا مرة واحدة ولكن يجب عليه أن يحصّنها ويعفّها أو يسرّحها بمعروف"[57] !!!
لقد بلغ ببعض علماء المذهب الحنفي إلى القول " أنه لا يجب على الرجل أن يسوّي بين الزوجات في الوطء ومقدّماته كما لا يجب عليه أن يساوي بينهن في النفقة والكسوة والشهوة بحيث يشتهي هذه كما يشتهي تلك ويمكن أن يكتفي بالوطء لإحداهن مرّة واحدة في العمر"[58] والحال ان القرآن الكريم يشدّد على القسط بين النساء اليتيمات متى تكفل بهن الرجل وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في العدل بين نساءه " اللهم هذا جهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك"[59].
من جهة أخرى فلم يكن يُشترط في النكاح اختيار الزوج والزوجة لبعضهما البعض بل "فلو أُكره الزوج أو الزوجة على النكاح انعقد النكاح"[60] ويرى الاحناف كذلك "أنه إذا زوّج الأب أو الجد بتزويج صغيرة لفاسق فإن الزواج يصحّ إذا لم يعرفا بسوء الاختيار وليس للبنت إبطال العقد إلاّ إذا تكرّر من الأب أو الجد سوء الاختيار"[61] وينسى هؤلاء "أن استقرار العين على شريك الحياة أو شريكة الحياة ضروري بل هو ركن في بقاء البيت"[62] وهو لعمري أقرب للسنة النبوية المعطرة "فإنّه أحرى أن يُؤدم بينكم " وينسى هؤلاء كذلك موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءته جميلة بنت أوس تشكو بقاؤها في بيت الزوجيّة مع زوج تكرهه ولا تطيقه طلب منها أن تردّ له حديقة كانت قد أخذتها من الزوج مهرا لها. فقبلت وأمر عليه السلام بتطليقها ممّن كرهت .كما أنه صلى الله عليه وسلم لما رقّ لزوج بريرة وذهب إليها يحدّثها في أن تعود إليه سألته هل جاء آمرا مشرّعا أم شافعا قال لها بل جئت شافعا فأصرّت ألا تعود له وفهم عليه السلام أن الأمر يتجاوز مجرد الخلاف البسيط وأنه لا يمثل لها قرّة العين المرجوّة من الزواج وفرقت هكذا بريرة بين العاطفة والحياة الزوجية وبين استجابتها للأمر النبوي و لم تتّهم في دينها ولا في طاعتها لله وللرسول.
وأخيرا فبالرغم ممّا عرفه التاريخ الإسلامي من انقلاب جوهري على الروح القرآنية والسنة النبوية في تحقيق العدل والأمان لكل فرد رجلا كان أو امرأة وما رافق ذلك من تغيب للبعد المقاصدي في مقاربة الفقهاء خلال سنّهم للأحكام ذات العلاقة بالمرأة فإن التوجه القرآني يظل دائما مقرّا أنّ الجنس لا يعدو أن يكون إلا غريزة تٌلبّى في أطر محدودة وبطريقة معتدلة وأنّ الأصل في ممارسته لا يكون الا في إطار مؤسّسة العائلة مخافة للعنت والكبت من جهة وتحقيقا للتوازن البيولوجي والنفسي من جهة أخرى ويكون بذلك الأداة المساهمة في تكوين الأسرة وفي حفظ النسل.
توصيات حول دور المرأة والمجتمع في البناء المنشود
تمثل مرحلة توصيف الواقع الاجتماعي والثقافي مرحلة ضرورية في التأسيس المنشود لكن الوقوف عندها لن يغني من جوع ولن يؤسس لنشأة فكر مقاصدي يتجاوز المذهبية والطائفية المقيتة ويساهم في إنشاء أرضية معرفية عالمية تنقذ بها الإنسانية من هيمنة المادة ومآلاتها.
من هنا كان لا بد من السهر على القيام بالمهام التالية:
-لا بد من العمل على تحرير الإنسان المسلم وإعادة بناء ذاته عبر التخلص من رواسب الموروث ونزع روح القدسية عن اجتهادات العلماء الذين قرأوا النص من خلال لحظتهم التي عايشوها. المجتهد لا يعدو أن يكون إلا إنسانا يخطأ حينا ويصيب آخر وأن المجهود البشري يحكم عليه ولا يحتكم إليه. يذكر محمد الغزالي أنّه لمّا "سئل ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر عن مسند الإمام أحمد بن حنبل هل فيه ما ليس بصحيح فأجاب بنعم وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل نفسه أنه روى في مسنده الضعيف إذا لم يكن في الباب ما يدفعه كما قال الفرّاء إنما روى احمد في مسنده ما اشتهر ولم يقصد الصحيح ولا السقيم"[63] وهذا الكلام يصح تأكيده في كل المذاهب وعند كل العلماء "فكلكم راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر " كما قالها الإمام مالك رضي الله في إشارة منه لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
-إعادة النظر في الأحكام الفقهية وتحيينها داخل الفضاء الإسلامي بروح تحكمها التقوى والخوف من عقابه تعالى من جهة وتكرّس العدل وتحفظ الكرامة للإنسان رجلا كان أو امرأة صغيرا أو كبيرا من جهة أخرى فالإسلام الذي حافظ على حقوق الحيوان وحذّر من ظلمه لا يمكن أن يسمج بالتقليل من قيمة المرأة واستضعافها.
-العودة للمشترك بين كل المسلمين والمتمثل في القرآن الكريم وما صحّ من السنة النبوية وقراءتهما قراءة مقاصدية كلية تتجاوز الاجتهادات الفقهية وتعّوضها بأخرى ترتهن للحظة الراهنة.
-تذليل العقبات وإعادة بناء الشخصيّة المسلمة المستنيرة التي تتقبل المختلِف وتتعامل معه ولا تدفع به إلى حلبة الصراع ليصبح عدوا يسهل تجنيده ضد الرسالة الإسلامية في حد ذاتها ويفعل بدينه وبنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه وأمثلة تجنيد الشباب وتوظيفهم ليست منا ببعيد والحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها تلقفها وهو أحق بها-
-إنشاء مؤسسات أكاديمية تعنى بإعادة قراءة الموروث بكل حياديّة في مسار مفاهيمي يسمو فوق المذاهب ويقدم البدائل الثقافية والحضارية ولا يهتم بمجرد القشور والاختلافات المذهبية والطائفية فالعالم متعطش لحلول ميدانية تنظر للإنسان في كلياته الأخلاقية والعرفانية والمادية يكون فيها المقياس للدين لا للمنتمين للدين. والإسلام الذي إن لم يجد من يدعو إليه بروح علمية وبأدوات معاصرة سينحصر اشعاعه ذلك أنّ السلعة النفيسة إذا لم يحسن عرضها والتسويق لها تبلى وتبور وتنسى وتعوض حتما بأخرى لا لقيمة تمتلكها بل لفراغ تحتله.
[1] فخر الدين الرازي مفاتيح الغيب ج 10
[2] سورة التكوير الآية 8-9
[3] مفاتيح الغيب ج 31 ص 70
[4] سورة الأنعام الآية 151
[5] رواه البخاري
[6] سورة النساء الآية 1
[7] سورة النحل الآية 72
[8] سورة النساء الآية 164
[9] سورة التوبة الآية 128
[10] مفاتيح الغيب ص 167 ج 9
[11] مفاتيح الغيب ص 168 ج 9
[13] سورة الأحزاب الآية 72
[14] سورة الحجرات آية 13
[15] سورة آل عمران آية 36
[16] مفاتيح الغيب ص 27 ج 7
[17] الشاعر حافظ ابراهيم
[18] عن كتاب النكاح الزواج الإسلامي السعيد وآداب اللقاء بين الزوجين ص 22
[19] الغزالي محمد قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة ص 70
[20] بن الجوزي عبد الرحمان البغدادي تلبيس ابليس ص 289 دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط أولى 1403 -1983
[21] بن عبد ربه العقد الفريد ص 246
[22] محاضرات الأدباء ج1 ص 308
[23] رواه الحافظ أبو بكر محمد بن عمر الجعابي في تاريخ الطالبين من حديث علي بسند ضعيف
[24] سورة الأحزاب آية33
[25] سامر إسلامبولي المرأة مفاهيم ينبغي أن تصحح ص 49 بتصرف
[26] سورة الأحزاب آية 32
[27] صحيح الجامع 2619
[28] حديث يرويه مسلم
[29] أنظر كتاب النساء لسن ناقصات عقل ودين للدكتور نور الدين الجلاصي
[30] سورة النساء الآية 1
[31] الشهرستاني الملل والنحل ص 191 ج 1
[32] ابو حامد الغزالي كتاب النكاح وآداب اللقاء بين الزوجين ص 22 تحقيق محمد عثمان الخشت – مكتبة القرآن
[33] عن الغزالي أبو حامد تحقيق د محمد عثمان الخشت كتاب النكاح ص 22 مكتبة القرآن
[34] سورة النساء الآية 3
[35] نقلا عن مفاتيح الغيب
[36] سورة النساء الآية 6
[37] مفاتيح الغيب ص 86 ج 6
[38] نفس المصدر ص 224 ج 4
[39] نفس المصدر ص 225 ج4
[40] نفس المصدرص 225 ج 4
[41] نفس المصدر ص 228 ج 4
[42] مفاتيح الغيب ص 65 ج 10
[43] سورة آل عمران آية 6
[44] مفاتيح الغيب ص 102 ج 6
[45] مفاتيح الغيب ص 183 ج 9
[46] سامر إسلامبولي المرأة مفاهيم ينبغي أن تصحح ص 95
[47] نفس المصدر ص 102
[48] سورة المؤمنون آية 1-2-3-4
[49] سورة الأحزاب آية 50
[50] سامر إسلامبولي المرأة مفاهيم ينبغي أن تصحح ص 97
[51] محمد الطالبي في كتاب أمّة الوسط
[52] رواه مسلم والترمذي واللفظ له وقال حديث حسن صحيح
[53] رواه ابن الجوزي في العلل
[54] رواه أحمد بإسناد ضعيف من حديث معاذ بن أنس
[55] سورة النساء آية 12
[56] مفاتيح الغيب ج 9 ص 226
[57] عبد الرحمان الجزيري الفقه على المذاهب الأربعة ج 4 ص 4 إحياء التراث العربي بيروت 1969
[58] عبد الرحمان الجزيري الفقه على المذاهب الأربعة ج 4 ص 241- 243
[59] حديث رواه اصحاب السنن وابن حيان من حديث عائشة
[60] عبد الرحمان الجزيري الفقه على المذاهب الأربعة ص 18 ج 4
[61] عبد الرحمان الجزيري الفقه على المذاهب الأربعة ج 4 ص 31
[62] الغزالي محمد قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة ص21
[63] الغزالي محمد قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة ص 25