الحوار بين أتباع المذاهب الاسلامية مبادئه ومنهجه
الحوار بين أتباع المذاهب الاسلامية مبادئه ومنهجه
فؤاد كاظم المقدادي
باحث ومفكر اسلامي - العراق
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
إن فلسفة الحوار بين أتباع المذاهب الاسلامية في إطار وحدة الأمة قائمة على أساس سنـّة إلهية في مسيرة الأُمم والشعوب، وهي أن مبدأ الوحدة والاتحاد أساسٌ ومبدأٌ للقوة، ولا تكون الوحدة كذلك إلاّ إذا قامت على محور الاعتصام بالله سبحانه، كونه تعالى القوي الغني بالذات، وهو المطلق الذي يفيض بالقوة، لقوله تعالى: (اِنَّ الْقـُوَّةَ للّهِ جَمـِيعاً) ([1])..
وبهذا تتكامل مقومات الوحدة الحقيقية، وتترتب عليها آثار القوة والمنعة، مصداقاً لقوله تعالى (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) ([2]).
ومن هذا المنطلق سارت مهمة الحوار للتقريب بين أتباع المذاهب الاسلامية لتكون معبّرة عن تلك الفلسفة والسنة الإلهية القائلة: بأنّ توحيد الكلمة قائم على كلمة التوحيد، وعلى هذا الأساس قامت الأمة الإسلامية، كأُمة واحدة: (إِنَّ هذِهِ أُمَّتـُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأّنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ([3]).
وعلى سيرة الرسول الأمين (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) وصحبه المنتجبين (رض) وعلماء مدرستهم ونهجهم المستقيم، وانطلاقاً من الأصول والمبادئ والأهداف الإسلامية الأصيلة تنادى علماء الإسلام المخلصين لهذه المهمة المقدسة وساروا باتجاهين:-
الاتجاة الاول: احتواء التقاطعات المذهبية , بكل انطواءاتها التي ترمى إلى تحويل أُمة المسلمين الواحدة إلى طوائف , تتضاد بالطارئ على قيمها وعقائدها ووحدتها التأريخية وثقافتها وكينونتها الواحدة، وتنابزها بالهامشيات من مفردات ومدعيات بعيدة عن الاصالة والثوابت.
الاتجاة الثاني: التأسيس لانطلاقة وعي وصحوة , يكون فيها العالم الديني صانع حياة لا مستهلكها وعامل إخماد للخلاف لا مؤجّج له ومنتج وحدة للبلاد والعباد وعنصرٌ من عناصر قوة الأمة وأداةٌ رائدة من أدوات درء المخاطر عن حاضرها ومستقبلها.
وعليه فإن الهدف الأساسي لحوار التقريب بين أتباع المذاهب الاسلامية , هو تحقيق وحدة الرؤية والرأي , كأساس لوحدة الأمة الإسلامية وبلاد الإسلام، ولتكون هذه الأمة الخيرّة مركز الأُمم والشاهدة عليها: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاَءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
ضوابط الحوار بين أتباع المذاهب الاسلامية
قال اللّه عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُم مِنْهَا كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ) ([4]).
وقال عزّ وجل أيضاً: (وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَتَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ) ([5]).
لحوار التقريب بين المذاهب الاسلامية ضوابط أساسية أهمها:-
الضابط الاول: يتضمن نفي معنيين في الحوار
المعنى الاول: نفي رفع اليد عن نقاط الفوارق المستحكمة بين المذاهب الاسلامية , سواءاً في الاصول أو في الفروع , لأنها تمثـّل هوّية كلّ مذهب وخصوصيته، فإنّ رفع هذه الاختلافات شأنٌ تخصصي جداً , يدور مدار كبار علماء المذاهب، ولا يصح تداوله خارج أوساطهم، لأنه سيؤدي إلى شبهة تجريد كلّ مذهب عن هويته , ولا أحد من العلماء الأعلام وأتباعهم يسعى لان يتخلى الآخر أو أن يتنازل عن خصوصيات مذهبة ليعتنق مذهباً آخر.
المعنى الثاني: نفي الامتناع عن الحوار والبحث العلمي التخصصي بين كبار علماء المذاهب الاسلامية، بل يجب أن يبقى الحوار العلمي الحر والموضوعي مفتوحاً بينهم، كما هو الحال في الحوار والبحث العلمي بين العلماء المختلفين في إطار المذهب الواحد.. وهذا النهج من الحوار السليم سيكون طريقاً للنمو العلمي,وسبيلاً لاكتشاف الحقيقة.. وسدّ هذا الباب يعني سدّ باب الوصول إلى الحقيقة لطالبها , وعدم توفير عوامل النمو العلمي التخصصي لأهل العلم.
الضابط الثاني: أن الحوار في المسائل المختلف عليها لاينفي ضرورة التآزر والتكاتف والتناصر والتعايش الاخوي في إطار الأُمة الواحدة.. بل إن الضرورة العقائدية والشرعية تؤكد مبدأ رصّ الصف الاسلامي والتراحم والتعاطف ودفاع المسلمين بعضهم عن بعض، والتواصل بين الفرق والفئآت والمذاهب الاسلامية من خلال الجامع الجوهري لهم بالأُصول الثلاثة: (التوحيد والنبوة والمعاد) وذلك بوصفهم معتنقين لدين واحد , ويشملهم جميعاً النص النبوي المـُجمع عليه بينهم: (المسلمون إخوة،تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم) ([6]).
أدب حوار التقريب ومنهجة
تتخذ قضية حوار التقريب بين المذاهب الاسلامية أهمية خاصة في الوقت الحاضر، وذلك لأنها ترتبط بقضية كبرى ومهمة، وهي قضية الوحدة الاسلامية، حيث تشكّل قضية التقريب العمود الفقري لها، ويمكننا الإشارة باختصار لأهم معالم أدب الحوار ومنهجه السليم بالنقاط الآتية:-
النقطة الاولى: في الوحدة الاسلامية, التي تمثل الهدف الاساس لحوار التقريب، بالاضافة إلى أهداف أُخرى ترتبط بتطور الفقه الاسلامي وقدرته على مواجهة التحديات المعاصرة ومعالجة المشكلات الحضارية الجديدة في مختلف المجالات.
لاشك أن الوحدة الاسلامية هي رغبة أكيدة وأمل كبير يعيش في نفوس المسلمين , وتتطلع إليه الأُمة الاسلامية بشوق ورغبة، وقد دعا إليها القرآن الكريم وأئمة أهل البيت (ع) والصحابة الكرام (رض) , ورسموا المنهج القويم لها، وفي نفس الوقت , نرى أعداء الأمة يعملون باستمرار لتمزيق صفوف المسلمين,من خلال إبراز نقاط الخلاف والتناقض والفرقة.
ومن أجل أن يتحول العمل من أجل الوحدة الاسلامية , من حال الشعار المحبوب إلى عمل هادف له أُسسه وبرامجه وأهدافه ومجالاته، لابد من الاشارة إلى مجموعة من الأسس , التي يمكن أن تقومّ الوحدة الاسلامية عليها:-
أ - معالجة الخلافات المذهبية على أساس الوحدة الاسلامية، لابمعنى توحيد المذاهب الاسلامية في مذهب واحد،وهو أمرٌ غير واقعي، بل هو غير منطقي، وإنّما بمعنى احترام آراء المذاهب الاسلامية وممارسات أتباعها العبادية والشخصية.
ب - الاعتراف بالحقوق الانسانية الأساسية، كالحقوق السياسية والعبادية لاتباع المذاهب الاسلامية في البلاد الاسلامية والعالم الاسلامي، بحيث لا يجوز , بأيّ حال من الاحوال , حرمان أتباع بعض هذه المذاهب من حقوقهم العامة , التي يشتركون فيها مع بقية المواطنين , لمجرد انتمائهم إلى هذا المذهب أو ذلك , أو أن يتحول الانتماء المذهبي إلى امتياز لصالح بعض الأفراد.
ج - توحيد النظرة الكلية إلى دور الدين في الحياة الانسانية ودور الشريعة فيها، بعيداً عن المواقـف السياسية التفصيلية لهذه الدولة والجماعة أو تلك، وهذا مما يمكن أن تتفـق عليه الهيئات الاسلامية بشكل عام.
د - توحيد النظرة الكلية إلى صيغة الحكم الاسلامي، بحيث لايكون هناك تقاطع في الصيغ المطروحة للحكم، ولا مانع من الاختلاف في الاجتهادات لتشخيص هذه الصيغة أو تلك.
و - توحيد النظرة الكلية تجاه أعداء الاسلام الأساسيين، سواءً على المستوى العقائدي، مثل حركة الالحاد والتحلل من الالتزامات والقيود الانسانية الفطرية، أو على المستوى السياسي، كحرحة الكفر العالمي، وقوى التسلط والهيمنةوالاستغلال، كالصهيونية العالمية، التي تعمل ليل نهار للكيد بالمسلمين ومجتمعاتهم، أو لنهب المزيد من أراضيهم وثرواتهم، وقتل وتشريد أبنائهم.
هـ - الاهتمام المشترك بالقضايا الأساسية في العالم الاسلامي، والتي تهمّ المسلمين جميعاً، مثل قضية فلسطين والقدس الشريف وقضية كشمير وغيرها من القضايا التي يتعرض فيها المسلمون كجماعة إلى الظلم والعدوان.
ويكون هذا الاهتمام انطلاقاً من المصلحة الاسلامية العليا، بعيداً عن التعصب المذهبي، أو التعامل على أساس الانتماءات المذهبية.
النقطة الثانية: في معالجة أسباب الاختلاف، لاجتنابها، فأنّ تشخيص أسباب الاختلاف يمثـّل الخطوة الاولى والأساسية في العلاج، والشأن في ذلك هو شأن تشخيص المرض الذي يمثل الخطوة المهمة في العلاج.
ويمكن إرجاع الأسباب الرئيسية إلى الامور الآتية:-
01 التعصب المذموم والتخلف الأخلاقي في معالجة القضايا.
02 النشاط المعادي للاسلام، الذي يسعى للتخريب بين المسلمين وتمزيق صفوفهم، من خلال إثارة الفتن والتركيز على نقاط الضعف والاثارة وشراء ذوي القلوب المريضة , لتسخيرهم لأداء هذه المهمة.
03 الجهل بأوضاع المسلمين ومعتقداتهم، والاعتماد في معرفة ذلك على الاشاعات والتهم , أو الروايات والأقوال الشاذّة في هذا المذهب أو ذاك.
04 الاختلاف الموضوعي والعلمي في ثبوت النص الشرعي المروي عن النبي (ص) أو الأئمة (ع) والصحابة الكرام (رض) أو العلماء الذين ينتسبون لهذا المذهب أو ذاك، وذلك بسبب الفاصل الزمني الكبير بين زمن صدور النص وأيامنا هذه، حيث وقع في النصوص الاختلاف والتزوير والخطأ والاشتباه في النقل.
05 الاختلاف في فهم النص ومقارنته بالنصوص الأخرى، حيث أن القرآن الكريم الذي ثبت نصه بالتواتر، فيه محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وعام وخاص... وأحاطت به القرآئن الحالية، وتسمى بأسباب النزول،والتي تلقي ضوءاً على فهمه وتفسيره.. وهكذا الحال أيضاً في النصوص المرويّة في السنة النبوية.
ولا شك أن معالجة هذه الأسباب، مختلفة في طرقها ووسائلها، ولابد من دراسة كلّ واحد منها , ووضع الأساليب المناسبة لهذه المعالجة.
فالتربية الاخلاقية العالية، وتقوى الله تعالى، والحرص على المصالح الاسلامية العليا، وتشخيص الأعداء، والحذر من مؤامراتهم وأعمالهم ونشاطهم، وسائل مهمة في معالجة السبب الأول والثاني.
وكذلك البحث عن معتقدات ومتبنيات المذاهب الاسلامية من مصادرها النقيّة، والاعتماد في ذلك على أقوال أئمة هذه المذاهب المعروفة، ومن منطلق الأُخوة الاسلامية وحسن الظن وروح التفاهم والمحبة، كلّ ذلك له تأثير كبير في معالجة السبب الثالث، ووضع القواعد والأصول والضوابط المستنبطة من القرآن والسنة الصحيحة , في إثبات النص وأتّباع منهج الحوار العلمي الموضوعي والمناقشة الهادئة، واتباع نهج الدليل المنطقي والشرعي، يمثل أفضل الطرق لمعالجة السببين الرابع والخامس.
النقطة الثالثة: في القضايا الأساسية التي لابد من الالتزام بها بين المسلمين لايجاد القاعدة والأرضية التي يقوم عليها بناء الحوار للتقريب بين المذاهب الاسلامية، فأنّ التقريب يحتاج إلى أجواء روحية وسياسية واجتماعية وأخلاقية وثقافية مناسبة، يعيش وينمو فيها هذا الهدف الحيوي الهام.
ومن الملاحظ أن القرآن الكريم اهتم بايجاد هذه الأرضية، عندما عالج قضية التقريب بين أصحاب الأديان السماوية، حيث أكّد على القضايا الأساسية، مثل التوحيد والنبوة والعدل والأصل الواحد للرسالات والتمجيد للانبياء الماضين وذكر قصصهم وأعمالهم، والحديث عن الاخلاق والمواقـف المعنوية والاجتماعية والموضوعات الثقافية المشتركة، ويمكن أن نشير إلى بعض المعالم والخصائص لهذه القاعدة والأرضية.
أولاً: التأكيد على دور القرآن الكريم والسنة النبوية وأهل البيت والصحابة الكرام، كقضايا مشتركة ومعترف بها ومسلّمة بين المسلمين، فأنّ القرآن الكريم نصٌّ ثابت محفوظ من التحريف يمكن الرجوع إليه ,وإن اختلف المسلمون في فهمه، ولكن يبقى وجوده عاملاً مهماً من عوامل وحدتهم.
وكذلك السنة النبوية يرويها المسلمون جميعاً عن أصحاب الرسول، وهناك الكثير من النصوص المشتركة التي ثبتت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة لدى الجميع.. ويبقى الاختلاف في ثبوت بعضها أو فهمه، مجالاً للحوار والبحث العلمي مع الاحترام المتبادل للآراء.. ولذا فإن إثارة الشك حول ثبوت القرآن الكريم, أو تضعيف السنة النبوية , أو الطعن بأهل البيت (ع) والصحابة الكرام (رض) كما فعله بعض شذّاذ العلماء من الفريقين , مما يؤدي إلى المزيد من الاختلاف والفرقة والتمزق.
ثانياً: التأكيد على القضايا المشتركة , في الأُصول والقواعد العلمية في الاثبات، مثل قضية وثاقة الراوي، وقضية المحكم والمتشابة والناسخ والمنسوخ والعام والخاص، وأن القرآن والسنة يفسّر بعضه بعضا، ونهج الاستقراء العلمي، وغير ذلك من قواعد المنهج العلمي في البحث كما هو مقرر في محله.
ثالثاً: الاحترام المتبادل للآراء العلمية والمذهبية , والتعامل معها بروح البحث العلمي والمناقشة الهادفة,بعيداً عن روح الاحتراب والاستفزاز والاستخفاف والتحامل، والتأكيد على العلاقات التي كانت قائمة بين أئمة المذاهب أنفسهم.
رابعاً: التخلي عن روح العدوان على المقدسات المذهبية والشعائر الدينية الخاصة باصحاب هذا المذهب او ذاك، ومنع أساليب التكفير والتفسيق والسب واللعن للمذاهب أو الأئمة أو الصحابة الاجلاء أو العلماء الاعلام المتمذهبين بها.. والاعتراف بوجود المذاهب الصحيحة المتعددة - بعد تشخيصها، كما فعل مجمع الفـقه الاسلامي الدولي - على المستوى الرسمي أو الثقافي، والعمل على إشاعة وترويج ثقافة وأخلاقية الحوار للتقريب بين المذاهب الاسلامية، وتجسيد مفهوم الأمة الاسلامية الواحدة , من خلال التناصر بين المسلمين في قضاياهم الحياتية (من سمع مسلماً ينادي ياللمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم).
النقطة الرابعة: في الاشارة إلى بعض الوسائل النافعة في حوار التقريب: فلأجل أن تتحول هذه القضّية من مجرد رغبة نفسية وهدف نبيل ومقدس للمسلمين إلى واقع علمي، فإنّها تحتاج إلى بعض الوسائل والأساليب.. وهنا نشير إلى نماذج من هذه الوسائل:-
أولاً: القرآن الكريم: فقد أجمع علماء المذاهب الاسلاميةعلى صيانة القرآن الكريم من التحريف، ويمكن معرفة ذلك من العناوين الآتية:-
01 جمع القرآن الكريم على يد أهل البيت والصحابة الكرام.
02 العناية بالقرآن الكريم , من خلال التأكيد على فضل قراءته والتدبر فيها وفضل حفظه، ومراتب ودرجات حملته.
03 سلامة القرآن الكريم من التحريف.
04 حجية القرآن الكريم في نصه وظهوره، من خلال الاستدلال به على الحكم الشرعي والعقيدة الاسلامية والسنة التاريخية , وغير ذلك من القضايا، وكذلك من خلال جعله مرجعاً للنصوص التي ترد عن أهل البيت والصحابة الكرام، حيث طلبوا عرضها على القرآن الكريم قبل الأخذ بها (فما وافـق القرآن فخذوه وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط).
05 الاهتمام بتفسير القرآن الكريم , خصوصاً من خلال المصاديق الحيّة، وتطبيقه على الواقع المعاش في كلّ عصر من عصور المسلمين.
ثانياً: توضيح الرؤية والموقف من الصحابة: فان الصحابة هم موضع إحترام جميع المسلمين، وهنا لابد من توضيح الرؤية حولهم بشكل موضوعي.. وذلك من خلال الأمور الآتية:-
01 الصحابة في زمن الرسول (ص) ودورهم في الدفاع عن الاسلام وترسيخ دعائمه وتضحياتهم العظيمة في سبيله.
02 التمييز بين الصحابة المؤمنين المخلصين وبين المنافـقين، الذين لايصدق عليهم عنوان الصحابة، ممن تحدّث عنهم القرآن، وأضّروا بالدعوة الاسلامية.
03 موقـف أهل البيت (ع) من الصحابة , الذي كان يتصف بالاحترام والتعاون والانفتاح، حتى مع الاختلاف في وجهة النظر السياسية أو الفكرية، خصوصاً بعد وفاة الرسول (ص).
ثالثاً: توضيح العلاقات المشتركة بين المذاهب الاسلامية , في الصدر الاول وفي بدأ التأسيس، وذلك من خلال تأليف الكتب أو كتابة الأبحاث في الموضوعات الآتية:-
01 رجال الشيعة الذين أخذ عنهم أهل السنة , فـقد ذكر السيد شرف الدين مائة راوٍ من الشيعة الذين أخذ عنهم أهل السنة , كنموذج لهذه الحالة.
02 رجال وعلماء أهل السنة الذين أخذ عنهم رجال الشيعة وعلماؤهم.
03 الروايات المروية في كتب أتباع أهل البيت (ع) من الشيعة الامامية عن ائمتهم عن رسول الله (ص)، بشكل مباشر، والمقارنة بينها وبين ما روي في كتب أهل السنة عن الرسول الله (ص).
04 إرجاع الروايات التي وردت في الفـقه من كتب الشيعة إلى مصادرها في كتب السنة والمقارنة في ذلك.. فسوف نجد من خلال هذه الابحاث الأواصر القوية بين المذاهب الاسلامية.
رابعاً: الابحاث المقارنة في فـقه المذاهب الاسلامية، خصوصاً في المجالات العبادية والمعاملات والأحوال الشخصية، وتشجيع طبع الكتب والكراسات فيها، حيث سنلاحظ من خلال ذلك ضيق الهوة الفاصلة بين مذاهب أهل السنة ومذهب أتباع أهل البيت (ع) وبقية المذاهب الاسلامية.
خامساً: الفصل في البحث العقائدي والفـقهي بين المواقف السياسية والفكرية، وبين المواقف الفـقهية، أو بين المواقـف الفـقهية والمواقـف العقائدية، فأنّ هذا الفصل سوف يكون له أثر موضوعي ونفسي في حوار التقريب.. ولا شك أن حوار التقريب في المواقـف السياسية بين الحكومات والبلدان الاسلامية ذات الالتزام الديني بالاسلام، له أثر عظيم في عملية الحوار والتقريب بين المذاهب، لأن الخلافات السياسية , في مثل هذه الحكومات والبلدان , تنعكس على المواقـف المذهبية والفـقهية والفكرية والثقافية.
سادساً: تشجيع إقامة الجمعيات والمنظمات والمراكز التي تعمل للحوار والتقريب بين المذاهب الاسلامية,وإشاعة ثقافة التقريب والتعددية المذهبية والوحدة في القضايا الاساسية.
سابعاً: تحكيم منطق البلاغ والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار العملي الهادف، بعيداً عن التعصب والارهاب الفكري والسياسي واثارة النعرات الطائفية والتطرف في المواقـف، وذلك من خلال إقامة المؤتمرات العلمية وتأسيس المنظمات الاسلامية المشتركة.
ثامناً: تشجيع عملية التعايش الاجتماعي بين أبناء المذاهب الاسلامية , من خلال المنظمات والمؤسسات الاجتماعية، وتبادل الزيارات واللقاءات , والاشتراك في الاحتفالات والمراسيم لهذه الجماعة وتلك، وغير ذلك من الوسائل الاجتماعية.
الأسس المبدئية للوحدة الاسلامية
لعل من أبرز المسائل التي تعيش أملاً حيـّاً في ضمير المسلمين، وهدفاً أكيداً في تطلعات الأُمة الاسلامية ورغبة ملحةً لدى رجالها وقادتها المجاهدين، هي مسألة الوحدة بين المسلمين، والتقارب بين مذاهبهم وفرقهم، وردم الهوّة الوهمية بينهم، تلك التي خلقها الجهل والهوى، وأحكمها كيد حكّام الجور والفساد، وعمل على اتساعها وتكريس أمرها , في مرحلتنا المعاصرة , الكفر العالمي والمؤسسات الثقافية والاعلامية الخبيثة، حتى استحكمت وأصبح أمرها يحتاج إلى الهمّة العالية للعلماء المخلصين , والحركة الرائدة للقادة المجاهدين، والإرادة الماضية للأُمة الواعية الراشدة، خصوصاً وأن المشتركات تكاد تجعل، وبنظرة علمية موضوعية، كلّ الاختلافات على الهامش، فيما تحتفظ بالاصول والاركان واحدةً لاتَعّدُدَ فيها متحدةً لا خلاف عليها، سواءً كانت بمنطق صريح مباشر للثوابت والنصوص العقائدية والتشريعية أو بالملازمة العقلية والعقلائية لها.
وتتأكد هذه الرؤية عند مراجعتنا لتراث السلف الصالح وأُطروحاتهم الحديثية والعلمية لمفردات الاسلام في مختلف أُصوله وفروعه، ذلك لأنّ يد التحريف والتزوير ومواكبة مصالح الحكّام الفاسدين والسلاطين المنحرفين لم تكن قد توغلت واستقرت بعد في كثير مما وصلنا من بعدهم، وقد كان لائمة أهل البيت والصحابة الاجلاء الدور الاساس في ذلك، حتى تبلورت منهجية خاصة تميزوا بها من خلال مدرستهم النبوية الاصيلة، وبذلوا لتحقيقها في حياة الأُمة الاسلامية كل وجودهم وحياتهم، ليصدق على واقع هذه الأُمة الوصف القرآني الكريم في قوله تعالى: (كنتم خير أُمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...) ([7]).. كما كانت مواجهة الطغاة ومخططاتهم في إجهاض هذا الهدف الرسالي الكبير شرسة لا هوادة فيها.
وليس أدلّ على ذلك من معاناة أئمة أهل البيت (ع) والصحابة الاجلاء وتابعيهم (رض) , من علماء ورواة حديث، وما تعرضوا له من اضطهاد وقمع وتشريد وسجن وتعذيب وقتل، منعاً للحق من أن يظهر وتدول دولته، وللأُمة من أن تعي وترشد , فتتحد وتردع الباطل وتُسقط سلطانه.. ولن ينهض بهذا العبء الثقيل ويضطلع بهذه المسؤولية الكبرى , إلاّ أهل العلم المخلصين ورجال الأمة الواعين , من أتباع هذه المدرسة الرائدة وسالكي نهجها القويم، الذين يدركون خطورة الأمر وأهميته ومواطن الصحة من الفساد في المنقول، ومنطق الصواب من الخطأ في المعقول، بروح اسلامية مسؤولة تأمل رضا الله، وبعقول علمية متفتحة تفحص عن الحقيقة وتنشد الحق، وبأخلاقية تدعو إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهنا نحاول أن نسلط الضوء، وبنظرة سريعة، على الأسس المبدئية لمنهج الحوار بين أتباع المذاهب الاسلامية لتحقيق وحدة الأُمة، ولتكون مدخلاً مفهرساً لدراسةٍ أكثر عمقاً وأوسع تفصيلاً, في التعرف على معالم هذه المدرسة النبوية الطاهرة، في منهجها وأساليبها الإلهية , لبناء الأمة الاسلامية الواحدة وتوحيد المسلمين على أُسس الاسلام المحمدي الأصيل.. وكلّنا أمل ورجاء أن تتحقق بذلك خطوة أساسية,ويشيد ركن ركين في مسيرة الوحدة الاسلامية المقدسة.
ويمكننا حصر هذه الأُسس من خلال الاستقراء القرآني والسيرة الشريفة في أساسين:-
الأساس الاول: وحدة العقيدة الاسلامية.
الأساس الثاني: وحدة التشريع الاجتماعي والسياسي العام.
الأساس الاول: وحدة العقيدة الاسلامية
وهي المضمون العقائدي لشهادة (أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمد رسول اللّه).
فبقول (لا إله إلاّ اللّه) تبدأ مسيرة التوحيد نحو الفلاح (يا أيها الناس قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا) ([8]).
وبالشهادة لمحمد بن عبداللّه (ص) بالرسالة الإلهية تنطلق رحلة التسليم والايمان بالله سبحانه: (فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيها شجر بينهم ثمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً) ([9]).
وبهاتين الشهادتين تتحقق وحدة العقيدة الاسلامية في أساسيها الأوليين، وهما توحيد الله والتسليم للرسول بالرسالة الإلهية، فـتقوم العلاقة الانسانية على أساس هذه العقيدة، في الحقوق والواجبات وحفظ الحرمات، فعن رسول الله (ص) أنه قال: (من شهد أن لا إله إلاّ اللّه واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم) ([10]).
ويقول (ص) أيضاً (اُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً رسول اللّه فإذا شهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً رسول اللّه واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلّو صلاتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها) ([11]).
وبذلك تتم الحجة الشرعية على إسلام قائلهما , ويحرم حينئذ نفي أصل الاسلام عنه وتكفيره في العقيدة، وأن صدر منه ما يخالف أحكام الاسلام التفصيلية بعد ذلك، لنهي رسول الله (ص) عن ذلك في قوله: (كفـّوا عن أهل لا إله إلاّ اللّه لا تكفّروهم بذنب فمن كفـّر أهل لا إله إلاّ اللّه فهو إلى الكفر أقرب) ([12])،وقوله (ص) أيضاً: (من قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله ومن قتل نفساً بشيء عذّبه الله بما قتل) ([13])، وقال (ص) أيضاً (إذا قال الرجل لأخية ياكافر فهو كقتله، ولَعْنُ المؤمن كقتله) ([14]).
وعليه ففي هذا الأساس مبدأين:-
الأول: مبدأ التوحيد:- وهو الأُس الأول للصراط المستقيم , ومنطلق حركة الانسان نحو الكمال: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ([15]).. (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ([16]).
وبدون هذا الأساس لا يمكن أن تتوحد حركة أيّ انسان مع نظيره , مهما كانت المحاولات والنوايا، ومهما توفّرت العوامل المادية لذلك: (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ([17]).
بل سنجد كلّ انسان قد افترق إلى فرقة بنفسه , وبعدد أهواء النفوس وشهواتها ستكون هناك سبلٌ وفرق (وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتـّبعوهُ ولا تتبعوا السبلَ فـَتَفَرّقَ بكم عن سبيـِله ذلكم وصّاكم بهِ لعلّكم تتقون) ([18]).. (شَرَعَ لَكم من الدينِ ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليكَ وما وصّينا بهِ ابراهيمَ وموسى وعيسى أنْ أقيموا الدينَ ولا تتفرّقوا فيه كَبُرَ على المشركينَ ما تدعوهم إليهِ اللّهُ يجتبي إليه مَنْ يشاءُ ويهدي إليه مَنْ يـُنيبُ) ([19]).
كما أن التوحيد هو الأساس في بناء الأمة الواحدة (إنَّ هذه أُمَّتـُكم أُمّةَّ واحدةً وأنا ربكم فاعبدون) ([20]).. (وإنَّ هذه أُمَّتُكم أُمةً واحدةً وأنا ربـُّكم فاتـّقون) ([21]).. وهو الأساس أيضاً في قلب الموازين الاجتماعية , وفي بناء العلاقات والجماعات، وتغيّرها من موازين النسب والحسب إلى موازين الايمان باللّه والتحزّب له ومن أجله سبحانه (لا تجد قوماً يؤمنونَ باللّهِ واليومِ الآخرِ يوادّونَ مَنْ حادَّ اللّهَ ورسولَهُ ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم أُوَلئك كتبَ في قلوبـِهم الإيمانَ وأيـّدهم بروحٍ منه ويدخِلُهم جنـّاتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها رضىَ اللّه عنهم ورضوا عنه أُوَلئك حزبُ اللّه ألا إنَّ حزبَ اللّهِ هم المفلحون) ([22]).
وهو بعد ذلك , حصن المسلم وضمان لسلامة الدين والمصير، فقد روي عن علي بن أبي طالب (ع) قال سمعت النبي (ص) يقول: قال اللّه جلّ جلاله: (( (إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا فاعبدوني))، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه باخلاص دخل حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي) ([23])..وعنه (ع) أيضاً قال: قال رسول الله (ص) (ماجزاء من أنعم اللّه عزّ وجل عليه بالتوحيد إلاّ الجنة) ([24]).. كما أن التوحيد كمال التصديق بالدين لقول علي (ع): (أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده) ([25]).
الثاني: مبدأ الايمان بالرسول والطاعة له- وهو المبدأ الثاني من مبادئ وحدة العقيدة الاسلامية، التي عاش المسلمون الأوائل حقيقتها على الأرض وتفاعلوا معها قيماً وسلوكاً وجهاداً وآثاراً، وأقام على ذلك التابعون من بعدهم بعقولهم وعواطفهم وسلوكهم، وقولهم فيه قول الله عزّ وجل في محكم كتابه المجيد (إنَّ اللّهَ وملائكتـَه يصلّونَ على النبيِّ يا أيها الذينَ آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً) ([26]).. ويمكننا الإحاطة الاجمالية بهذا المبدأ ودوره في التوحيد والوحدة الاسلامية من خلال تناول المفردات التالية:-
أ - الكتاب الإلهي الواحد (القرآن الكريم): -
باعتباره الكتاب الذي جاء به الرسول الاكرم (ص) من عند اللّه تعالى، وقام بتبليغه للناس، وعمل على تثبيت مكانته المقدسة ووحدته في عقيدة المسلمين وحفظه لهم بإذن الله، ودعاهم إلى أن يكون الدستور الأبدي لهم، ومن أبرز مداليل أن القرآن الكريم، باعتباره الكتاب الإلهي الأوحد للمسلمين، أساس مبدئي للوحدة والأُخوة بين المسلمين هي:-
01 كونه إمام الأُمة المصدِّق والحقّ من الله تعالى الذي لا مرية فيه، ورحمته الواسعة , الذي يتوحد المسلمون تحت لوائه، وذلك مدلول قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً وهذا كتابٌ مصدِّقٌ لساناً عربياً لينذرَ الذين ظلموا وبشرى للمحسنينَ) ([27]).. وقال تعالى: (أفَمَنْ كان على بيـّنةٍ من ربـّهِ ويتلوهُ شاهدٌ منهُ ومن قبلهِ كتابُ موسى إماماً ورحمةً أُوَلئكَ يؤمنونَ بهِ ومن يكفرْ به من الاحزابِ فالنارُ موعدُه فلا تكُ في مريَةٍ منهُ إنّه الحقُّ من ربـِّك ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون) ([28]) , وعن علي بن أبي طالب (ع) قال: (عليكم بالقرآن فاتّخذوه إماماً قائداً) ([29]).
وبخلاف ذلك تنتفي الوحدة وتحلّ الفرقة وينتشر الضلال ويضيع الدين، وذلك قول علي (ع): (أنه سيأتي عليكم بعدي زمان ليس فيه شيءٌ أخفى من الحقّ، ولا أظهر من الباطل... فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم! لأنّ الضلالة لا توافـق الهدى وإن اجتمعا. فاجتمع القوم على الفرقة، وافترقو ا على الجماعة كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم، فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه، ولا يعرفون إلاّ خطه وزُبْرَهُ...) ([30]).
وهو حبل الله المتين في توحيد المبدأ , وعروته الوثقى في وحدة الدين , وطريقته المثلى في صراطه المستقيم، ففي الحديث عن علي (ع): (عليكم بكتابِ الله فإنـّه الحبلُ المتينُ والنورُ المبينُ والشفاءُ النافعُ....مَنْ قال به صدق، ومَنْ عمل به سبقَ) ([31]).
02 كونه يمتاز في هذا السبيل، سبيل الحجة التامة للواحد الأحد في المعبود، والتوحيد والوحدة الاسلامية في الدين، أنه محفوظ لا ينحرف (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون) ([32]).. ويُطمئن الله سبحانه رسوله الأمين (ص) بعدم ضياع القرآن الكريم، فانّ عليه تعالى جمعه وقرآنه، ومن ثم بيانه، وهو قوله الكريم: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إنّ علينا جمعه وقرآنه * فاذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إنّ علينا بيانه) ([33]).
وعن علي (ع) قال: (كتاب اللّه تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله) ([34]).
ومن بليغ وصفه (ع) للقرآن الكريم , كونه قوام الاسلام الأبدي وبنيانه الأزلي قوله: (.. ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقيده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لايَضلّ نهجه، وشعاعاً لا يـظلم ضَوْؤهُ، وفرقاناً لا يخمدُ بـُرْهانهُ، وتبياناً لاتُهدم أركانه وشفاءً لا تُخشى أسقامُه، وعزّاً لا تهزم أنصارُه وحقّاً لا تخذلُ أعوانه، فهو معدن الايمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحورهُ، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الاسلام وبنيانُهُ، وأوديةُ الحقّ وغيطانه، وبحرٌُ لا ينزفه المستنزفون، وعيونٌ لا ينضبها الماتحون، ومناهلُ لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضلُّ نهجها المسافرون، واعلامٌ لا يعمى عنها السائرون وآكامٌ لايجوزُ عنها القاصدون....) ([35]).
والقرآن الكريم بعد ذلك نزل بالحق مصدقاً لما سبقه من كتب الانبياء والمرسلين ومهيمناً وحاكماً عليها، وهو قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ([36]).
03 كونه المحجّة البيضاء التي لا طريق للباطل والفرقة والفتن بين المسلمين معها، لو يتلونه ويتبعونه حقّ أتـّباعه، وذلك مفاد قوله عزَّمن قائل في كتابه الكريم: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ([37]).. وهو بعد ذلك مقوّم مبدئي للأخوة الاسلامية التي نادى بها رسول الله (ص) وبذل أهل البيت (ع) وصحابته الاجلاء (رض) من بعده كلّ وجودهم من أجل تجسيدها وتحقيقها في واقع المسلمين، وخصوصاً في سلوك وحياة أتباعهم ومحبيهم.
فعن علي بن ابي طالب (ع) قال: (أَوِّهِ على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموهُ وتدبّروا الفرضَ فأقاموه، أحيوا السنّةَ وأماتوا البدعةَ، دُعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه) ([38]).
ثم هو حصن الأمة من الفتن والمخرج الآمن منها، فعن رسول الله (ص) قال: (أتاني جبرئيل فـقال: يامحمد سيكون في أُمتك فتنة، قلت فما المخرج منها؟ فقال:كتاب الله فيه بيان ماقبلكم من خبر، وخبر ما بعدكم، وحكم مابينكم...) ([39]).
04 كما أن في القرآن الكريم حلُّ مشاكل المسلمين وحكم مابينهم ونظم أمرهم، وبذلك يـُحكم بناء الأُمّة الواحدة ويشتدٌّ عودها وتقوى شوكتها.. وهو مدلول قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) ([40])..وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) ([41]).. وقوله تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء) ([42]).
وعن رسول الله (ص) قال: (القرآن غنيٌّ لاغنى دونه،ولا فـقر بعده) ([43]).. وعن علي (ع) قال: (واعلمو ا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحَدِّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدىً، أو نقصان من عمىً، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنىً، فاستشفوهُ من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فان فيه شفاءً من أكبر الداء: وهو الكفر، والنفاق، والغيُّ، والضلال، فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه، ولاتسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلى الله تعالى بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدِّق،وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شـُفِّع فيه، ومن مَحَلَ به القرآن يوم القيامة صُدِّق عليه، فانه ينادي منادٍ يوم القيامة: (ألا إن كلّ حارث مبتلىً في حرثه وعاقبة عمله، غير حَرَثِة القرآن).. فكونوا من حرثته وأتباعه،واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواءكم) ([44]).
وعنه (ع) أيضاً أنه قال: (في القرآن نبأ ماقبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم) ([45]).
وقال (ع) أيضاً: (...أَلا إنَّ فيه علم مايأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم مابينكم) ([46]).
وعنه (ع) في وصف القرآن الكريم قال: (جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفـقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخلَهُ، وهدى لمن ائتمَّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلْجاً لمن حاجّ به، وحاملاً لمن حمله، ومطيّة لمن حمله، وآية لمن توسَّم، وجُنّة لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى) ([47]).
ب - عظمة الرسول (ص) وصفاته الكمالية:-
إن الخصال المثالية والصفات الكمالية التي حباها الله تعالى رسوله الكريم (ص) وتعاهده عليها تحقق هدفين أساسيين , في مضمار إمضاء الإرادة الإلهية على الأرض، وسوق الانسان المسلم في مدارج الكمال إلى ربـّة العزيز المتعال , وهما:-
01 على صعيد تبليغ رسالة الله ودعوة الانسان لعبوديته سبحانه، سيكون كمال رسول الله (ص) وعصمته من الخطأ والنسيان والخيانة، مـُنجّزاً للحجّة الإلهية التامة على الارض , والبلاغ المبين في الدين للانسان، فعن علي بن ابي طالب (ع) في بيان هذه الصفة الشريفة والمنزلة الرفيعة للرسول الكريم (ص) يقول: (... أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع في الألسن فـقضى به الرسل، وختم به الوحي، فجاهد في الله المدبرين عنه، والعادلين به...) ([48]).. ذلك لأن رسول الله (ص) لاينطق إلاّ عن وحي إلهي وتسديد رباني لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) ([49]).. وبهذا تتحقق وحدة الدين ووحدة الخطاب الإلهي للبشرية، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فيما ورد من كتاب له للاشتر حين ولاه مصر: (... واردُد إلى الله ورسوله ما يـُضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فـقد قال الله تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) فالرد إلى الله: الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول: الاخذ بسنته الجامعة غير المفرّقة) ([50]).
وقد استوعب أمير المؤمنين (ع) هذه الحقيقة , في إمضاء إرادة الله , لتحقيق وحدة الخطاب الإلهي , من خلال عظمة الرسول (ص) ومقامه عند الله، قائلاً: (اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جَيـْشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حُمّل فاضطلع، قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكل عن قُدُمٍ، ولا واهٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، وأقام بموضحات الأعلام، ونيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق، ورسولك إلى الخلق) ([51]).
02 على صعيد التربية والإعداد لإنسان الرسالة الإلهية ومجتمع العدل الإلهي والأُمة الواحدة الراشدة، ستكون الأخلاق العظيمة لرسول الله (ص) ورأفته ورحمته، سبيلاً حسناً، وحكمته ودرايته منهجاً ربانياً، لتحقق المصاديق النموذجيـّة للاقتداء والتأسّي برسول الله (ص).. الذي أمر الله عباده به، حيث قال في محكم كتابه الكريم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) ([52]).
ومن الواضح الجلي أن التأسي برسول الله (ص) يعني، بمفهوم لازم، وحدة التلقّي والأخذ، ووحدة السلوك، ووحدة الدعوة والتبليغ في واقع المسلم المتأسّي، كما هو شأن الرسول (ص) مع ربّه عزّ وجل , حين أدّبه وربّاه، فـقد ورد عن الامام الصادق (ع) (إن الله أدّب نبيّه (ص) حتى إذا أقامه على ما أراد، قال له: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) فلمّا فعل ذلك له رسول الله (ص) زكّاه الله فقال: (إنـّك لعلى خلقٍ عظيم) فلمّا زكّاه فوّض إليه دينه فـقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) ([53]).
وهكذا تكون أخلاق رسول الله (ص) العظيمة، وخصاله الكريمة، باعث شوق المسلمين وحبّهم لله الواحد الأحد، ورائد هديهم ورشادهم لصراطه المستقيم، وحجّة ً تامة على صدق ما آتاهم من الدين، وعامل شدِّهم وتحريكهم لتولّي أمرهم في تحقيق إرادة الله وإعلاء كلمته في الأرضين، وكل ذلك عوامل بناء وترسيخ لوحدة الأمة الاسلامية , وتأسيس أرضية أخلاقية للأُخوة بين المسلمين.
وقد صدق الله في محكم كتابه إذ قال في ذلك: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) ([54]).. وقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ([55]).
ج- قيمة وطاعة الرسول (ص) وآثارها:-
إنّ لطاعة الرسول (ص) قيمةً وآثاراً ذكرها القرآن الكريم وأشارت إليها السنّة الشريفة للرسول الكريم (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) وصحابته الكرام (رض)، خصوصاً في تحقيق أخلاقية الوحدة والاخاء بين المسلمين ومن أبرز تلك القيم والآثار:-
01 إنـّها تؤدي إلى توحيد الله والتوبة والإنابة له سبحانه، وهي بذلك ترتّب آثار هذا التوحيد وتلك الإنابة في تحقيق وحدة المبدأ والمسار والمصير للمسلمين، حيث جاء في القرآن الكريم: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) ([56]).. وجاء أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) ([57])..بل ان مخالفة رسول الله (ص) وشقاقه الصريح , هي في طول مخالفة وشقاق الله سبحانه، وهي تساوق الكفر في الآثار والنتائج، وقد تضافرت آيات القرآن الكريم في بيان ذلك وتأكيده، منها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ([58]).. وقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ([59]).
ويذهب القرآن الكريم إلى أبعد من ذلك , فيؤكد أن التوحيد الخالص والايمان الحق لا يجتمع أبداً في قلب مؤمن مع ودِّ من خالف الله ورسوله , وإن كانوا آباءه أو أبناءه أو إخوانه أو عشيرته، وذلك في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ([60]).
02 تحقيق وحدة الإمامة والقيادة الإلهية، وبالتالي وحدة القرار والحركة والهدف في مسيرة المسلمين نحو الله، إذ بوحدة الامامة والقيادة الإلهية تنتفي كل عوامل الاختلاف والتفرق عن سبيل الله، فطاعة رسول الله (ص) والتسليم له، بعنوانه إماماً وقائداً للمسلمين، بلا حرج وشوب , هو علامة كاشفة عن صدق الايمان والاقرار بالحاكمية المطلقة للرسول (ص) في كل شأن من شؤون الأمة، وهي تقابل الصدّ عن طاعة الرسول (ص) والتحّرج من انفاذ قضاءه وتنفيذ أوامره، الذي هو علامة كاشفة عن النفاق وعدم صدق الايمان بالرسول (ص)، وبالتالي عدم الاقرار بامامته وقيادته الإلهية، وهو في واقعه المبدأ السلبي الذي منه تتفرق الأمة وتتمزق إلى شيع وأحزاب لغير الله، يعادي بعضها بعضـَها الآخر، فيفشلوا وتذهب ريحهم، وهو مفاد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا * فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) ([61]).. وهو أيضاً مدلول قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ([62]).
03 ومن الآثار المهمة لطاعة رسول الله (ص) هو منع سيادة حالة النفاق في أوساط المسلمين، وبالتالي الوقوف في وجه التفرّق والتشرذم والانكفاء عن الأهداف الإلهية للإسلام في هداية الناس، وتحقيق وحدة الأُمة الاسلامية وبناء كيانها الشامخ، وهو مدلول قوله تعالى في محكم كتابه العزيز، والذي يحدد فيه سبحانه علامات الطاعة للرسول (ص) ولوازمها ويكشف عن حالات النفاق في طاعته والتسليم له (ص)، وعلامات هذا النفاق والآثار المترتبة عليه ويرشده إلى الموقف المبدئي من المعرضين والمعارضين: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاّ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ([63]).
لهذا نجد أن القرآن الكريم قد عنى بشكل كبير ومثير خطورة النفاق على انتشار دعوة الرسول (ص) بين الناس , وإقامة مجتمع التوحيد وبناء أُمة الاسلام، فجاءت عشرات الآيات الكريمة تحذّر الرسول الكريم (ص) منهم , وتكشف نواياهم وخططهم في اجهاض الدعوة الاسلامية والتشكيك في مقام الرسول الكريم (ص) وقيادته، بهدف خلق حالة من التردد وعدم التسليم له (ص) , تمهيداً لأرضية التمرد عليه وعصيان أوامره، وكثيراً ما كان يَحذَر هؤلاء المنافـقين أن تنزل آية كريمة لتكشف أمرهم وخططهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في مواضع متعددة، منها قوله تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ * الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) ([64]).
ولجني هذه الثمرة الكبيرة وردع النفاق ومنع سيادته، حذّر الله سبحانه رسوله الكريم (ص) منهم ومن خططهم ونواياهم , وأمره بجهادهم ومواجهتهم، وألزمه بالاقدام وانفاذ ما أمره به، وتعبئة المؤمنين وتحريضهم على طاعته وامتثال أوامره، وتحذيرهم من دسائس المنافـقين ودعاياتهم الكاذبه، فـقد جاء العديد من آيات القرآن الكريم بهذا المدلول، منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ([65]).. ومنها قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً* أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً * فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) ([66]).
الأساس الثاني: وحدة التشريع الاجتماعي
وينطلق هذا الاساس المبدئي من الآية الكريمة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ([67]).. وتؤكّد آية كريمة أُخرى ذات المفهوم فتقول: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ([68]).
ومن ظاهر الآيتين الكريمتين نجد أن علّة وحدة الأُمة الاسلامية هي وحدة الرب والمعبود، وأن هذه الوحدة لا تتحقق في إطارها الاجتماعي والسياسي إلاّ إذا تجسّدت هذه العقيدة عبادةً لله وتقوى على هديه وشريعته، التي أرادها حياةً للأُمة وتوحيداً لها في سيرها الشامل نحو الله تعالى.
ونجد مخطط هذه الوحدة الشاملة لجميع جوانب حياة الأُمة وحركتها الإلهية في الجوانب الآتية:-
01 وحدة الشعائر الاسلامية: كالقبلة الواحدة والصلاة والصيام والحج وغيرها ؛ ولهذا الجانب أثرٌ كبير في إبراز الصفة المقدسة لمظهريّة وحدة الأُمة , من خلال الشعائر الاسلامية الواحدة، فالقبلة واحدة، وهي الكعبة المشرفة بيت الله الذي أقام قواعده نبيا الله ابراهيم واسماعيل (ع) بأمر الله ووحية: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ([69]).
والقيمة الرسالية المميزة لقبلة المسلمين هذه , أنها لم تكن قبلتهم باديء الأمر، إلى أن أمر الله رسوله أن يتحول إلى الكعبة المشرفة ويتخذها قبلة خاصّة للمسلمين، فقد روى علي بن ابراهيم بإسناد عن الصادق (ع) قال: (تحوّل القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبي (ص) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر قال: ثم وجهه الله إلى الكعبة، وذلك أن اليهود كانوا يعيّرون رسول الله (ص) ويقولون له:أنت تابع لنا، تصلي إلى قبلتنا فاغتمَّ رسول الله (ص) من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمراً، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين، فنزل جبرئيل (ع) فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، فـقالت اليهود والسفهاء: (مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) ([70]).
وبذلك تميّز المسلمون عن اليهود، وكانت الكعبة قبلتهم دون سواهم، وحّدوا الله باستقبالها في صلاتهم وشعائرهم المتعلقة بها، فكانت بحق إحدى عوامل شعورهم بالأُمة الواحدة في مبدئها ومسارها وغايتها، وكذلك الأمر في الصلاة، فهي مبدأ بناء أمة التوحيد والعدل، وذلك مفاد قوله تعالى على لسان نبيـّه إبراهيم (ع): (ربِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) ([71]).
وشأن الصلاة توحيد المسلمين، لكونها رأس الاسلام بعد الإقرار بالدين، فعن رسول الله (ص) قال: (ليكن همّك الصلاة فإنـّها رأس الاسلام بعد الإقرار بالدين) ([72])..وكونها خير العمل وعمود الدين، فعن رسول الله (ص): (الصلاة عمود الدين) ([73]).. وعن امير المؤمنين (ع) قال: (أُوصيكم بالصلاة وحفظها، فإنها خير العمل، وهي عمود دينكم) ([74])..وعنه (ع) أيضاً: (الله الله في الصلاة؛ فإنها عمود دينكم) ([75])..وهل أدلُّ من ذلك في شأنية الصلاة على وحدة المسلمين في الدين والملّة؟ خصوصاً إذا تُوج أداؤها بالجماعة، ففي ذلك إظهار للحجة، وإعلان للتوحيد في العبادة، وبناء لأُمة الاسلام الواحدة.
فعن صلاة الجماعة قال الامام الرضا (ع): (إنّما جعلت الجماعة، لئلاّ يكون الاخلاص والتوحيد والاسلام والعبادة لله، إلاّ ظاهراً مكشوفاً مشهوراً، لأنَّ في إظهاره حجّة على أهل الشرق والغرب لله وحده، وليكون المنافـق والمستخفّ مؤدياً لما أقرّ به، يظهر الاسلام والمراقبة، وليكون شهادات الناس بالاسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البرّ والتقوى، والزجر عن كثير من معاصي الله عزَّ وجل) ([76]).
والحج، هو الآخر شعيرة من شعائر الله الكبرى، التي تعبر تعبيراً عظيماً عن وحدة المسلمين وتواصلهم وتعارفهم وتناصرهم، من خلال الاجتماع الهائل للحجاج المسلمين في مكة المكرمة، على اختلاف قومياتهم وأوطانهم واجتهاداتهم الاسلامية، ومن خلال أدائهم الواحد وتناسقهم الفريد في أعمال الحج وشعائره الموحدة، وجعل الشارع المقدس الحج فريضة واجبة على المستطيع, يبرز أهميته وأثره في تحقيق أهداف الاسلام السياسية والاجتماعية الكبرى، تصديقاً للآية الكريمة: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ([77]).. وهي بعد ذلك نداء وأذان للناس للاجتماع: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) ([78])..ليتداولوا شؤونهم، وينظّموا أمرهم، وليتشاوروا فيما يحقق وحدتهم وعزّتهم، ويقيم دينهم ويديل دولتهم ويقوي شوكتهم، سياسياً واقتصادياً.
كل ذلك يتمّ في أجواء شعائر الحج الإلهية المقدسة، وفي إطار المناخ الروحي لهذه الفريضة العبادية المشهودة، فعن هشام بن الحكم قال: (سألت أباعبدالله (ع) فقلت له: ماالعلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحج والطواف بالبيت؟ فقال: إن الله خلق الخلق.. وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا.. ولتعرف آثار رسول الله (ص) وتعرف أخباره ويذكر ولاينسى) ([79]).
وهكذا ولو تتبعنا باقي الشعائر الاسلامية، لوجدناها طافحة بدلالات التوحيد العقائدي والوحدة الاجتماعية والسياسية بين المسلمين، مفعمة بروح التواصل والتناصر والتآخي في الله فيما بينها.
02 وحدة الشأن الاسلامي: وفي هذا الجانب، يظهر أبرز صور التكافل وأقوى الأواصر الأخوية بين أبناء الأُمة الاسلامية، وتنشأ منه حالة اجتماعية فريدة ومعبّرة عن شوكة المسلمين ومَنَعتهم، مما يؤهّلهم لتمثـّل الوحدة السياسية فيما يتعلق بكيانهم الاسلامي الواحد، ومجمل حركته العامة، وهو يخوض صراع إثبات الوجود وأصالة البقاء عقائدياً وحضارياً.. وبنظرة فاحصة إلى ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة، نجدها قد جاءت نصـّاً جلياً في بيان هذا الأصل الاسلامي الشامخ، منها الآية الكريمة التي تحكي قوّة الارتباط بين المؤمنين، وتعبّر عنها بالولاية، حيث تقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ([80]).
ويحدثنا الرسول (ص) عن وحدة الشأن الاسلامي فيما بين المؤمنين، وضرورة اهتمام بعضهم بقضايا البعض الآخر وأموره، تحقيقاً لتلك الوحدة، فيقول: (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم) ([81]).. ويضيف (ص) أيضاً مؤكّداً أن كل ذلك مرتبط بالله، رافضاً للذل، محققاً للعزّة، مصدقاً قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ([82]).
ثم يسلط الرسول (ص) الضوء على حالة الاهتمام بأُمور المؤمنين، ويصفها بأنها حالة تواد وتراحم، ويعلل ذلك بأن المؤمنين هم كالجسد في ترابطه وإحساسه الواحد، فيقول: (مثل المؤمنون في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى) ([83]).
وقول الامام الصادق (ع) في ذلك أيضاً: (المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده...) ([84]).
إذن , فوحدة الشأن الاسلامي , أصل وحقيقة مبدئية مقوّمة للوحدة والأخوّة بين المسلمين، وأساسٌ بنّاءٌ في قيام الأمة الاسلامية الواحدة.
03 الولاية والتناصر بين المسلمين: إنّ أول ما أسّسه الرسول (ص) بأمر الله سبحانه في بناء كيان الأمة الاسلامية، وعمل لتجسيده واقعاً محسوساً، هو مبدأ الولاية والتناصر بين المسلمين، الذي عبّر عنه القرآن الكريم أروع تعبير حين قال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ([85])..وبذل الرسول (ص) الكثير لشدّ المسلمين نحو تمثلهم ذلك , صورة حاكيةًمعبرةً في جميع جوانب الحياة، سواء في بعدها الفردي أو الجماعي والسياسي، حتى أصبحت السمة البارزة والمميزة لهم ولدرجات قربهم إلى الله ورسوله، وتكشف لنا الآيات القرآنية الكريمة عن هذا المبدأ الأساسي بتفصيل رائع، حيث يقول تعالى فيها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ([86]).
وقد جعل رسول الله (ص) أمر التناصر بين المسلمين معياراً لانتماء المسلم وارتباطه العضوي بالأُمة الاسلامية وكيانها الواحد، فعن أبي عبدالله (ع) أن النبي (ص) قال: (من أصبح لايهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن يسمع رجلاً ينادي ياللمسلمين، فلم يجبه فليس بمسلم) ([87]).
ثم جعل لدماء المسلمين حرمة أوجب حفظها، وشرّع القصاص لمن يتجاوز عليها، بل جعل المسلمين - كل المسلمين- قوة واحدة متكافئة متكافلة في الدفاع عن كل فرد ينتمي مبدئياً إليهم، فـقد روي عن الرسول (ص) أنه: (خطب (ص) بمنى (إلى أن قال):المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم،ويسعى بذمتهم أدناهم،هم يدٌ على من سواهم)) ([88]).
وعن إبراهيم بن عمر اليماني عن الأمام الصادق (ع) قال: (حق المسلم على أخيه المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه، ولا يروى ويعطش أخوه، ولا يكسي ويعرى أخوه، فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم !).
وقال (ع): (أحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك، وإذا احتجت فسله، وإن سألك فأعطه لا تمله خيراً ولا يمله لك، وكن له ظهراً فإنه لك ظهر، إذا غاب فاحفظه في غيبته، وإذا شهد فزره وأجلّهُ وأكرمه، فإنه منك وأنت منه، فإن كان عليك عاتباً فلا تفارقه حتى تسأل سميحتهُ، وإن أصابه خير فاحمد الله، وإن ابتلي فاعضده، وإن تمحل له فأعنه، وإذا قال الرجل لأخيه: أُف انقطع ما بينهما من الولاية، وإذا قال: أنت عدوي فقد كفر أحدهما، فإذا اتهمهُ إنماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء).
وقال: (بلغني أنه (ع) قال: إن المؤمن ليزهر نوره لأهل السماء كما يزهر نجوم السماء لأهل الأرض). وقال (ع): (إن المؤمن ولي الله يعينه ويصنع له ولا يقول عليه إلاّ الحق ولا يخاف غيره) ([89]).
وبذلك تـُحكم أركان الولاية والتناصر في الأُمة الاسلامية، معبّرة عن أفضل وأهم عوامل قيام الوحدة الاجتماعية والسياسية بين أبنائها، على أُسس عقائدية وطريقة عملية تكاملية تجسد مبدأ التوحيد في منهجيته لتوحيد الأمة، وجوداً وحركة وهدفاً، ليصدق فيها قول الله عزّ وجل في كتابه الكريم: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ([90]).
04 التواصي بالحق والتواصي بالصبر:لا شكّ أن عظمة هذا المبدأ وقيمته في تكوين عصبة الايمان، وتقوية شوكة المسلمين ورصّ صفوفهم وخلق المنعة والاقتدار في كيانهم، هي العلّه في أن يـُقسم الله لأجله في القرآن الكريم , وينصّ فيه على أن النجاة من الخسران المبين والفوز بمراتب التسليم له سبحانه رهين بالتزامهم به محتوىً ومنهجاً في حياتهم الاجتماعية والسياسية، حيث يقول عزّ من قائل: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * لاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ([91]).
إن التواصي بالحق والتواصي بالصبر على حمله، والعمل به، يوجب تحقق رتب للمؤمن، تترتّب علاقته بالحقّ على ضوئها، كالآتي:
أ- أولى هذه الرتب هي معرفة الحق، وقد حدد الاسلام طريقة معرفته، وحصرها بما جاء به الرسول (ص) من عند الله قرآناً، إرشاداً، وسنةً للعقول، وتشريعاً للحياة، حيث خاطب الله رسوله (ص) في محكم كتابه الكريم قائلاً: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) ([92])..وجعل معيار الايمان وميزانه، معرفة الحق من الله عزّ وجل عن طريق رسوله الكريم (ص).. حيث قال: (...فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) ([93]).. ورفض المنهج الأرضي الذي يقرر أن معرفةالحق بالرجال، وأثبت العكس في أن معرفة الرجال تكون بالحق ليس إلاّ، فعن علي بن ابي طالب (ع) قال: (أنَّ دين الله لا يُعرف بالرجال، بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله) ([94]).. وقال (ع) أيضاً: (إنّ الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال.. إعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله) ([95]).. فالاسلام حثّ على طلب الحق مهما كانت الموانع والعقبات، حيث لايكون من أهل الحق إلاّ مَنْ وجده وسلّم له وعمل به.
ب- وثاني هذه الرتب التسليم للحق والعمل به، وهو أول مصاديق معرفة الحق وآثاره الحقـّة.. فقد جاء عن رسول الله (ص) قوله: (السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم، قيل: يارسول الله ومن هم؟ فقال:الذين يقبلون الحق إذا سمعوه ويبذلونه إذا سُئلوه ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم) ([96]).
وقد تألّق علي بن ابي طالب (ع) في وصف هذه الرتبة، فـقال ببلاغته الفريدة وفصاحته السديدة: (ألا وإن الحقَّ مطايا ذلل، ركبها أهلها، وأعطوا أزمّتها، فسارت بهم الهوينى حتى أتت ظِلاً ظيلاً) ([97]).
ج- وثالث الرتب الصبر على الحق، لأنّ الحق ثقيل مبدأً، يحمله الانسان المؤمن والجماعة المؤمنة، ومنهج حياة، وعمل وجهاد، يتنكّبه العاملون في طريق الله، ويقارعون به الجبت والطاغوت، من أعداء الله والمستكبرين في الأرض، وقد نزلت في بيان شدة الحق وثقله على الانسان آيات كريمة، منها قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) ([98])..وقوله تعالى: (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) ([99]).. وقال:علي بن ابي طالب (ع): (لا يصبر للحقَّ إلاّ من يعرف فضله) ([100]) وقال (ع) أيضاً: (إصبر على مرارة الحق، وإياك أن تنخدع لحلاوة الباطل) ([101]).
د- ورابع الرتب إعلان الحق والدعوة له، تخلّقاً بأخلاق الله في ذلك، حيث يقول عزّ من قائل في كتابه الكريم: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) ([102]).. وهذه الرتبة هي أعلى الرتب وأسماها، لما فيها من إقامة الحق وإرساء قواعده في الأُمة، وردع الباطل وأهله ومواجهة الجور وسلاطينه.. وقد تواصلت آيات القرآن الكريم يؤكد بعضها الآخر على ضرورة اضطلاع الأُمة المؤمنة بمهمة بيان الحق والدعوة إليه، منها قوله تعالى: (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ([103]).. وقوله تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ([104]).. كما أنّ هذه المهمة تعتبر من ممحصات الايمان ومحكّات اختباره، لايفرق فيها من يتحملها بين أن تكون له وللأقربين منه أو عليه وعليهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) ([105]).. كما لا يفرق فيها بين رضاً أو غضب، فعن رسول الله (ص) قال: (ما أنفق مؤمن نفقة هي أحب إلى الله عزّ وجل من قول الحق في الرضا والغضب) ([106])..بل أن مهمة إعلان كلمة الحق والصدع بها هي من أفضل الجهاد عند الله، فعن رسول الله (ص) قال: (ألا لا يمنعنَّ رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حقً عند سلطان جائر) ([107]).
وهكذا فلو ترقّت الأُمة وتسامت في رتب التواصي بالحق والتواصي بالصبر هذه تكامل بناؤها، ورُصَّت صفوفها،واشتدّ عودها، ولأصبحت أُمة الحق والعدل، يتوحّد فيها هدفها ومسارها ومصيرها، ولتسنّمت بذلك رتبة الشهادة على الناس، أمماً وشعوباً، بعد الله ورسوله، ليصدق بحقها قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...) ([108])..ولا يتم ذلك جزافاً، بل لابد من الجهاد في الله حق الجهاد، والاعتصام به سبحانه في هذا السبيل، لنيل هذه الرتبة السامية والشرف العظيم: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ([109]).
وقد بيّن الله سبحانه، أنّ كل مايصيب الأُمة الراشدة من قرح وفتن، فهو سنـّة قائمة في الناس، لا تختص بالمؤمنين منهم، فيجب أن لا تثنيهم عن تنكّب طريق الحق والعدل، والوصول إلى رتبة الشهادة الكبرى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ([110]).
05 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن هذه الوظيفة الإلهية والمبدأ الاسلامي له مفاد شامل لكل أبعاد الحياة الفكرية والعلمية، وتكاد تنحصر ثماره بممارسته , خصوصاً على صعيد الأُمة، حيث لا نجد آية كريمة في القرآن الكريم، لا يكون فيها خطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبطاً بالمؤمنين، بوصفهم أمة واحدة وجماعة متحدة، يوالي بعضهم البعض الآخر، كما نجد أن طبيعة الارتباط بين وحدة الأُمة الاسلامية، بما تتحلى به من إيمان وخير ورشاد، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو ارتباط الموصوف بصفته والمعلول بعلته، فـقد جعل الله سبحانه وتعالى الأمة الاسلامية خير الأُمم، التي أُخرجت للناس، بوصفها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ([111]).. كما أن إرادة الله سبحانه وتعالى شاءت أن تكون سُنَّة التمكين في الأرض للأُمة المؤمنة، معلّلة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) ([112]).
وللإحاطة بهذا المبدأ الاسلامي المهم، ودوره الخطير في بناء وتوحيد الأمة الاسلامية، نعرض له باختصار في ثلاثة جوانب أساسيـّة:-
أولاً:أهلية الأُمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فلو لم تكن الامة مؤهلة للقيام بهذه الوظيفة الإلهية الخطيرة، فإنها ستفقد أهم عامل من عوامل قوة شوكتها ودوام وحدتها، وأهلية الأُمة هنا تعني توفرها على خصائص معينة بما هي أمة، وهذه الخصائص هي:-
أ-الايمان بالله ورسولة والتسليم والطاعة لهما، وهذه الصفة هي المنبع الأول والأساسي لمعرفة كلّ معروف يراد الأمر به، ومعرفة كلّ منكر يراد النهي عنه، والاستقامة في أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق ثمارة في الأمة: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) ([113]).. ولذا نجد أن الله سبحانه قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياق الايمان بالله واليوم الآخر، ليحقَّ في القائمين به أنهم من الصالحين: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ([114]).. وفي آية أُخرى، جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياق الأيمان بالرسول واتّباعه واتباع النور الذي أُنزل معه، وبذلك يصدق وصف الله لهم بالمفلحين: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ([115]).
وفي ضرورة إحاطة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بأحكام الاسلام، وعلمه بتفصيلاتها، واستقامته عليها، وحكمته في أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الامام الصادق (ع): (إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال:عالمٌ بما يأمر، عالمٌ بما ينهى، عادلٌ فيمايأمر، عادلٌ فيما ينهى، رفيقٌ بما يأمر، رفيقٌ بما ينهى) ([116]).
ب- الولاية فيما بين أبناء الأمة المؤمنة، فلو لم يكن بين أبناء الأمة الواحدة موالاة الايمان، لكان ثلماً في طاعتهم لله ورسوله، ومن ثم تخلّفاً في اقامتهم للدين، وقوامه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ظاهر تفريع الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله على الولاية فيما بين المؤمنين والمؤمنات في قوله عزّ من قائل: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ([117]).
وقد جاء عن علي بن ابي طالب (ع) مايؤكد أن أهم عوامل الولاية بين المؤمنين والمؤمنات، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال: (من أمر بالمعروف شدَّ ظهور المؤمنين) ([118]).. وقال (ع) أيضاً: (الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق) ([119]).
ج-الخلافة لله ولرسوله في الأرض، التي تعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم مستلزماتها وواجباتها ؛ لقوله تعالى في محكم كتابه الكريم: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) ([120]).. وقال الامام الباقر (ع): (إن الله جعل للمعروف أهلاً من خلقه، حبب إليهم فعاله، ووجّه لطلاب المعروف الطلب إليهم ويسّر لهم قضاءه، كما يسّر الغيث للأرض المجدبة) ([121])..والخلافة عهد وبيعة، بايع بها المؤمنون ربّهم الله ورسوله، على حمل الأمانة الإلهية وأدائها في الأرض، وإقامة الدين وإعلاء كلمته، وإن من أهم مقوماتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ([122]).
والخلافة هنا، خلافة الأمة المؤمنة الواحدة، التي يسعى لتحقيقها الرسل وأتباعهم من المؤمنين الصالحين، فهي خلافة الدين ورسالته في الأرض، التي وعدها الله عباده الصالحين: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ([123])..وقال الرسول (ص): (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الأرض، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله) ([124]).
ثانياً: دوائر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاث دوائر هي:-
أ-الدائرة الاولى: هي دائرة الأُمة داخلياً، سواء أكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيد فردي فيها أو على صعيد جماعي، كما لو استشرت حالة المنكرات والإعراض عن المعروف، استشراءً اجتماعياً عاماً، أو كانت هناك منظمات خاصة تقبع وراء انتشار المنكرات والإعراض عن المعروف بشكل مباشر أو غير مباشر، لذا جعل الاسلام غايته وقوامه في هذه الدائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن الرسول (ص) أنه قال: (لا ينبغي لنفس مؤمنة ترى من يعصي الله فلا تنكر عليه) ([125]).. وقال علي بن أبي طالب (ع): (قوام الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود) ([126]).. كما أن في الأمر بالمعروف تحقيقاً لمصلحة العامة في المجتمع الاسلامي الموحد، وذلك قول علي بن أبي طالب (ع): (فرض الله تعالى... الأمر بالمعروف مصلحة للعوام) ([127]).
ب-الدائرة الثانية: هي دائرة حكّام الجور، التي طالما جاهدها المؤمنون المجاهدون في أغلب أدوار المسيرة الاسلامية عبر تاريخها الطويل ؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الدائرة من أفضل الجهاد، لقول رسول الله (ص): (ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا أن أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر) ([128]).
وقال علي (ع): (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق، ولكن يضاعفان الثواب ويعظمان الأجر، وأفضل منهما كلمة عدل عند إمام جائر) (غرر الحكم:6: 262).. بل إنّ البرَّ كلّه والجهاد في سبيل الله، لا يعدلان قيمة ودور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لقول علي (ع): (ما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كنفثة في بحر لجّي) ([129]).
ج-الدائرة الثالثة: الدائرة الخارجية، التي هي من جهة، تدفع فيها الأمة الاسلامية عن نفسها كلّ منكر يغزوها من الأمم الضالة، وكلّ معروف مزوّر يفدها من المجتمعات الجاهلية، وذلك قول الامام الباقر (ع): (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر،فأنكروا بقلوبكم، وألفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم) ([130]).
ومن جهة أخرى، تتحمل الأمة الاسلامية مسؤوليتها الكبرى في دعوة الأُمم والشعوب الأُخرى إلى الاسلام، وبيانه لهم عقيدة حق ونظام سعادة وحضارة كمال للانسان على الأرض، لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) ([131]).. وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ([132])..ولكون الأمة الاسلامية تنفرد دون غيرها بأنها خير الأمم، لشرف انتمائها للأسلام، الذي وحّدها وميّزها عن الأمم الأُخرى، وعظمة الرسالة التي تحملها للناس: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) ([133]).
ثالثاً: أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بناء الأمة الاسلامية والحفاظ على كيانها الواحد.
إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آثاراً عظيمة، على صعيد بناء الأمة الاسلامية، والحفاظ على وحدتها قوّية شامخة، من أبرزها:-
أ-تحقيق الوحدة والتماسك الداخلي، على أساس التقوى والعدل، وامتلاك القدرة على الحدّ من حالات الطغيان والظلم، التي قد تظهر في أواساط الأمة، سواء أكان على صعيد أفراد أو قوىً أو قيام دول وبروز حكّام ينزون على السلطة فيها ويجنحون إلى الجور والفساد، وبعكسه سوف ينتشر الفساد في أوساطها وتذهب ريحها وتتمزّق أوصالها وتتفرق شيعاً وأحزاباً، يلعب بمقدّراتها أهل الفجور والفساد، ويملك المستكبرون أمرها، ويسومها الطغاة الظلم والجور، ويجرّعها المتجبرون الذّل والهوان، وينهش أطرافها ويستحوذ على ثرواتها العتاة والشذّاذ من الأمم الأُخرى، فقد جاء في كتاب الله الحكيم: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ) ([134]).
وعن علي (ع) قال: (أعتبروا أيها الناس بما وعظ الله أولياءه، إذ يقول: (لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الأثم) ([135])، وقال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ- إلى قوله- لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) ([136]).. وإنّما عاب الله ذلك عليهم، لأنهم كانوا يرون من الظَـلَمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبةً مما يحذرون ؛ والله يقول: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) ([137]).. وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ([138]).. فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فريضةً منه، لعلمه بأنها إذا أُدّيت وأقيمت استقامت الفرائض كلّها هينها وصعبها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام، مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها) ([139]).
وعن علي (ع) قال: (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهُنّ عن المنكر، أو ليستعلنّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) ([140]).
ب-تقوية شوكة الأمة الاسلامية أمام الأمم الأُخرى، وظهورها بظهور القوة الواحدة، التي تُرهب أعداء الله والاسلام، ذلك أن قوّة شوكتها أمام الأعداء ناشئة من قوة بنائها الداخلي وتماسكها الذاتي، الذي حصّنها من نفوذ قوى الكفر والجاهلية، وجعلها قوّة تُرهب أعداء الله ورسوله، مضافاً إلى كونها تترصد العدو وتحذّره بما تملك من الحس بالمنكر فتنكره قبل أن ينفذ إلى أوساطها، والحس بالمعروف فتعلنه وتأمر به، لينشأ منه رأيٌ عام، يملك الآفاق والنفوس، فعن الرسول (ص) أنه قال: (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر) ([141]).
ثم إن الأمة الاسلامية، قد تحملت مسؤولية دعوة الناس للدخول في دين الله الحق، ورفع الحجب التي وضعها المستكبرون والطغاة، ليحولوا بين البصائر ورؤية الحق حقاً فُيتبع، والباطل باطلاً فيجتنب، والصبر على ما يصيبها من كيد الاعداء وفتنتهم، فقد جاء عن لسان لقمان (ع) في القرآن الكريم: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ([142]).. كما أن النصر الإلهي في تحقيق هذه الأهداف، أثرٌ من آثار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الصعيد، لقول رسول الله (ص): (يأ أيها الناس، إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أُعطيكم وتستنصروني فلا أنصركم) ([143]).. كما ربط الله تعالى حرمات بركات الوحي، ونزع هيبة الاسلام من الأمة، بتركها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعظيم الدنيا، فعن رسول الله (ص) قال: (إذا عظّمت أمتي الدنيا نُزعت منها هيبة الاسلام، وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حُرمت بركة الوحي) ([144]).
06 التعاون على البر والتقوى: البرّ هو أوسع صور الإحسان وأصدقها، وما اقترانه بالتقوى، في كثير من الآيات الكريمة والروايات الشريفة، إلاّ دليل على أنّ البرّ يفتقر في ديمومته ونموه في الكيف والكم إلى تقوى البارّ لله تعالى ؛ كما أنهما لا ينهضان ولا يظهران حالة اجتماعية وسلوكاً عاماً لأبناء الأمة إلاّ إذا تناجى المسلمون بهما وتعاونوا عليهما، والتعاون عليهما عمل جماعي، يجب أن يمارس على صعيد الأمة، لتحقق بذلك الأخوة بأفضل صورها وأعلى رتبها، وتكون عاملاً حاسماً في رفع ودفع كلّ صور الإثم والعدوان والعصيان من واقع الأمة، وتوحيدها في المبدأ والمسار والمصير، ورصّ صفوفها على صراط الله المستقيم وسبيله القويم، وفي ذلك قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ([145]).. وفي آية أُخرى قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ([146]).
ويؤكد المضمون المبدئي للبرّ وارتباطه المعنوي بالتقوى، أن علامات وصفات البارّ، هي نفس علامات وصفات التقي، كما في قوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ([147]).. كما جاء في الحديث عن الرسول (ص) في علامات البارّ قوله: (يحبّ في الله، ويبغض في الله، ويصاحب في الله، ويفارق في الله، ويغضب في الله، ويرضى في الله، ويعمل لله، ويطلب إليه ويخشع خائفاً مخوفاً، طاهراً مخلصاً، مستحيياً مراقباً، ويحسن في الله) ([148]).
وهكذا فإن أمة هذه صفات أبنائها، والله الواحد الأحد محورها في كل شيء، هي لا شك أمة التوحيد والوحدة، في عقيدتها وحياتها وحركتها.
ويؤكد الامام الصادق (ع) دور التعاون على البر وأثره في بناء الأمة الصالحة وتوحيدها في الله، وأنه يـُثمر الحب في الله، والتواصل والتراحم فيما بين أبناء الأمة، وهذا هو أعلى صور الأخوة والتوحيد في الله ومن أجل الله، وذلك لتفريعه (ع) كل ذلك على البرِّ في قوله: (اتقوا الله وكونوا إخوة بررة متحاّبين في الله، متواصلين، متراحمين) ([149])..وجاء عنه (ع) أيضاً: (تواصلوا وتبارّوا، وتراحموا، وتعاطفوا) ([150]).. وجاء عنه (ع) أيضاً (تواصلوا وتبارّوا، وتراحموا، وكونوا إخوة بررة كما أمركم الله عزّ وجل) ([151]).
وبذلك يكون التعاون على البرّ جهاداً، يدفع عن الأمة كيد الأعداء ويحفظ بيضة الاسلام من الخطر، وهو عمل أمة متحدة على أُسس الايمان والتقوى والبذل والتضحية والصبرفي البأساء والضراء وحين البأس، لقوله عزَّ من قائل في كتابة الكريم: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ([152]).
07 الاستباق إلى فعل الخير وإشاعته: فقد وردت أحاديث تدعو إلى فعل الخير والاستباق إليه وإشاعته، فـقد قال علي بن ابي طالب (ع): (عليكم باعمال الخير فبادروها، ولا يكن غيركم أحقّ بها منكم) (غررالحكم).. وذلك لكونه أعم الأسس الأخلاقية في تكوين الانسان الصالح والأمة الصالحة، وبناء وحدتها، وتطبيق مبدأ الأخوة بين أبنائها، لاجتماع حقيقة الدين فيه.
وقد صرّح القرآن الكريم بالسبب الكامن وراء الاختلاف والتفرّق، وهو اتباع الأهواء، كما صرّح بالعلاج لهذا الداء الوبيل، وهو الحكم بما أنزل الله واستباق الخيرات، فإنّها الأساس الأخلاقي الأمثل لتوحيد الأمة، ورفع الاختلاف فيما بينها، ومن آيات ذلك قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ([153]).
كما جعل الله سبحانه من أبرز أعمال أوليائه - رسلاً وأئمة - فعل الخيرات، وأنها أحد أركان العبادة له سبحانه وتعالى، حيث قال في محكم كتابه الكريم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) ([154]).
ومن أبرز سنن الخير التي تضفي على الأمة الاسلامية روح الأخوة والسلام، وتخلق فيها أجواء الحب والوئام، وتميّزها عن غيرها من الأمم، هي سنة إفشاء السلام، فقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: (ألا أخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟ قالوا: بلى يارسول الله، فقال: إفشاء السلام في العالم) ([155]).. وورد عن علي أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (سُنّة الأخيار لين الكلام وإفشاء السلام) ([156]).
أما كيف تنتمي إلى أهل الخير وأُمته؟ فذلك قول علي (ع): (ألا وإِنّ الله سبحانه قد جعل للخيرِ أهلاً وللحق دعائم وللطاعة عصماً ؛ وإنّ لكم عند كل طاعة عوناً من الله سبحانه يقول على الألسنة، ويثـّبت الأفئدة، فيه كِفاءٌ لمكتفٍ وشفاءٌ لمشتفٍ) ([157]).. فـقد ورد في معرفة خير الناس أنه: (قال رجلٌ للنبي (ص)... أُحبّ أن أكون خير الناس، فقال خير الناس من ينفع الناس، فـكن نافعاً لهم) ([158]).. وعن علي (ع) أنه قال: (خيرُ الناس من نفع الناس) ([159]).. وعنه (ع) أيضاً: (خير الناس من تحمّل مؤنة الناس) ([160]).
أمّا خير الأخيار وأفضلهم، فـقد عرّفه رسول الله (ص) بقوله: (خيركم من دعاكم إلى فعل الخير) ([161]).. وعن علي (ع) أنه قال: (افعلوا الخير ما استطعتم فخيرٌ من الخير فاعله) ([162]).. وعنه أيضاً: (فاعل الخير خيرٌ منه وفاعل الشر شرٌ منه) ([163]).
الخاتمة
مدرسة أهل البيت عليهم السلام رائدة الوحدة الاسلامية
ليس جزافاً أن نقول: إن مدرسة أهل البيت عليهم السلام هي المدرسة الرائدة والمرشحة الاولى لأداء الدور القيادي في هذا السيبل ؛ لما تتميز به أطروحاتها العلمية والاجتماعية والسياسية من قدرة محكمة وسيرة تاريخية لتحقق هذا الهدف المقدس.
ففي أطروحتها العلمية مثلاً تتميز باعتمادها منهج الدليل والبرهان في مختلف جوانب المعرفة, والالزام بالحجة البالغة والبيان التام , كما هو القرآن الكريم في آياته البينات , وكما هو الرسول (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) في السنة الشريفة , ولا غرابة في ذلك ؛فمدرسة أهل البيت (ع) تأسست على يد الرسول الاعظم (ص) , على أساس أعلانه الخالد بتلازم الثقلين المباركين كتاب الله وعترته الطاهرة , ووصيته لأمته بهما في قوله (ص) ((إني تركت فيكم ما أن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) ([164]).
والذي يُقلب صفحات التاريخ الرائد لأئمة أهل البيت (ع) يجدهم مُثلاً عُليا في السير على هذا النهج القرآني , والسيرة النبوية الشريفة: حتى أذعن لحججهم وبياناتهم أئمة المذاهب الاسلامية الاخرى , ونهلوا ما تيسر لهم من منهلهم القرآني الحق , ولعل أبرز تلك الحقب المجيدة ما كان على يد الامامين الصادقين الباقر والصادق (ع) حتى غدا أكثر من أربعة آلاف عالم ومحدّث معاصر للامام الصادق (ع) يقول: حدثني جعفر بن محمد الصادق , لذا نجد أن الكثير من رواة الحديث هؤلاء معتمدون عند الفريقين, ويوثقهم أهل المذاهب الآسلامية الأخرى , ويروون عنهم المئآت من الأحاديث , من أمثال أبان بن تغلب الربعي وأبي حمزة ثابت بن أبي صفية الثمالي , وهما من تلامذة الأئمة السجاد والباقر والصادق (ع) وأبي أرطاة الكوفي القاضي , وحرب بن شريج (شريح) ابن منذر المنقري , والحكم ابن عتيبة الكندي , وربيعة بن أبي عبد الرحمن , وسليمان بن مهران الأسدي الكاهلي , وشيبة بن نصاح بن سرجس ابن يعقوب المخزومي , وعبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب القريشي الهاشمي العلوي , وعبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم الانصاري , وعبد الله ابن عطاء الطايفي المكي , وعبيد الله بن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي , وعبد الرحمن بن طلحة الخزاعي , وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج , وعبد الملك بن جريج , وعطاء بن ابي رباح, وعلقمة بن مرتد الحضرمي (أبي حارث الكوفي) , وعمرو بن دينار المكي , وأبي إسحاق السبيعي , والقاسم بن الفضل الأزدي (أبي مغيرة البصري) , وقرّة بن خالد الدوسي , (أبي محمد البصري) ,وأبي كثير النواء , وليث بن أبي سليم القريشي (أبي بكر الكوفي) , ومحمد بن سوقة , ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري , ومخوّل بن راشد النهدي , ومعمر بن يحيى بن سام , وموسى بن سالم مولى آل العباس بن عبد المطلب (أبي يهضم) , ويحيى بن أبي الكثير الطائي , ويحيى الكندي الكوفي , وكلهم من تلامذة الإمام الباقر (ع) , وعبد الرحمن بن عمرو بن ابي عمرو (أبي عمر الاوزعي) , وهو من تلامذة الامامين الباقر والصادق (ع) , وحفص بن غياث من أصحاب الامامين الصادق والكاظم (ع) وعشرات غيرهم ([165]).
إنّ ما نجده اليوم من مساحة التوافق الواسعة في الطرح الاصولي والفقهي بين المذاهب الاسلامية المختلفة هو من بركات هذا النهج وعطاءات أئمة أهل البيت (ع).
واصلت هذه المدرسة الاسلامية الكبرى نهجها هذا , وتراكمت فيها معطيات أجيال متوالية من العلماء والفقهاء والمحدثين , حتى أصبحت أغنى مدرسة في تراثها وعطائها العلمي الأصيل.
ولم يقتصر نهج مدرسة أهل البيت (ع) على الجانب العلمي , رغم أنه الأهم لكونه الأساس في بناء وحدة اسلامية أصيلة وراسخة , بل أنه تكامل ليشمل عموم هيكل بناء الامة الواحدة , وتوحيدها أخلاقياً واجتماعياً وسياسياً. وبمراجعة واعية وموضوعية لسيرة أهل البيت (ع) نجد نهجاً واحداً وخطاً جلياً , يحكي هذه الحقيقة ويهدف الى ذلك الهدف المقدس , منها ما في سيرة الامام علي (ع) في زمن الخلفاء الثلاثة الأولين فحينما وجد أن أصل الاسلام ووحدة الأمة الاسلامية مهددة بالخطر , أعلن موقفه الرسالي من الخليفة الاول حفظاً لوحدة المسلمين وتقوية لشوكتهم , رغم وضوح حقه في الخلافة وبيعة المسلمين له في حضور رسول الله (ص) في آخر حجة الوداع عند غدير خم , وقد قال في ذلك: ((فامسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام , يدعون إلى محق دين الله وملّة محمد....)) ([166]).
وقال ايضاً: ((فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين...)).
ولم يثنه عن موفقه هذا إرجاف المرجفين , كأبي سفيان حيث قدم المدينة وجاء لعلي فقال: ((والله أني لأرى عجاجة لايطفئها الاّ دم... اين المستضعفان؟ أين الأذلاّن علي و العباس)) وقال ((ابسط يدك حتى أبايعك فزجره علي ّ وقال (إنك والله ما أردت الاّ فتنة وأنك والله طالما بغيت الاسلام شرّاً لاحاجة لنا في نصيحتك)) ([167]) , وحينما أراد الخليفة الأول غزو الروم استشار جماعة فقدّموا وأخروا , ولم يقطعوا برأي , فاستشار علياً في الامر , فقال ((أن فعلت ظفرت فقال بُشرت بخير)) ([168]).
وشاروه الخليفة الثاني في الخروج إلى غزو الروم فنصحه الامام علي (ع) بعدم الخروج بنفسه , وأن يرسل رجلاً شجاعاً وخبيراً بفنون القتال ويبعث معه أهل الخبرة والنصيحة , وأن يبقى هو في المدينة , وقال له: ((فابعث اليهم رجلا ً مجرباً واحفز معه اهل البلاء والنصيحة , فأن أظهره الله فذاك ما تحب , وأن تكن الاخرى كنت ردئاً للناس , ومثابة للمسلمين)) ([169]).
وعن الطبري في تاريخه عن سعيد بن المسيب: قال: ((جمع عمر بن الخطاب الناس فسألهم من اي يوم نكتب التاريخ؟ فقال علي: من يوم هاجر رسول الله (ص) وترك أرض الشرك , ففعله عمر)) ([170]). وهكذا وجد التاريخ الهجري ليؤرخ به المسلمون.
وفي الجانب الاقتصادي شاور الخليفة الثاني الصحابة بعد انتصار المسلمين على الفرس في سواد الكوفة , فقال: بعضهم: ((تقسمها بيننا)) ثم شاور علياً في الامر فقال الامام: ((إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها , فتكون لنا ولمن بعدنا)) , فقال عمر: ((وفقك الله, هذا الرأي)) ([171]).
وفي شؤون الدولة وعمالها استشار الخليفة الثاني علياً فيما بلغه من أحد عمّاله , باع ما يحرم بيعه وجعل الثمن في بيت المال , فقال علي (ع): ((إما أن تعزله , وإما أن تكتب إليه ألاّ يعود)) ([172]).
ونهج مدرسة أهل البيت (ع) نهج إمامهم (ع) فلم ينكصوا عن تسنم مناصب إدارية كبرى في ظل حكومة الخليفة الثاني , فقبل سلمان الفارسي ولاية المدائن , وقبل عمار بن ياسر ولاية الكوفة, وقبل غيرهم مناصب حساسة اخرى , وقد أخلص إمامهم علي في مشورته ونصحه , وذبّه عن الاسلام ووحدة المسلمين طيلة فترة الخلفاء الثلاثة الأولين , وفي عهد خلافته حتى سقط شهيداً في محرابه.
وعندما انتهى اجتماع أهل الشورى الستة بقرار ترشيح عثمان للخلافة بعد وفاة الخليفة الثاني , قال الامام علي (ع) لهم: ((لقد علمتم أني أحق بها من غيري , ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين...التماساً لأجر ذلك وفضله)) ([173]). وكان الامام علي لا يتوانى في إعانة الخليفة الثالث , ويشير عليه برأي عندما يطلب منه ذلك ولاسيما في القضاء.
وبذل أمير المؤمنين (ع) غاية الجهد لمنع وقوع الفتنة في أواخر خلافة عثمان حفظاً لوحدة المسلمين , فحذّر الخليفة من بعض الولاة الذين كانوا وراء إثارة الفتنة بين المسلمين , كما حذّره من مروان الذي كان محور المؤامرات التي تحاك لإشعال الفتنة , فقال له ((والله ما مروان بذي رأي في دينه ولانفسه , وأيم الله إني لا أراه سيوردك ثم لا يصدرك)) , إلاّ أن استمرار مروان بدوره التآمري أفشل كل محاولات احتواء الفتنة , وعندما طالبت المعارضة عثمان بتسليم مروان أبى فحدث الحصار ([174]) وانتهى بقتل عثمان.
واستمر نهج أمير المؤمنين (ع) أيام خلافته في حفظ وحدة المسلمين وتقوية شوكتهم ومحاصرة الفتن التي مزّقت صفوفهم , وما حروبه الشهيرة الثلاث (الناكثين و القاسطين المارقين) إلاّ من أجل القضاء على رؤوس الفتنة والمؤامرة على وحدة الأمة ووحدة كيانها السياسي الشرعي. وعندما تحولت الخلافة الاسلامية الى ملكية وراثية على عهد معاوية وأصبحت حكراً على بني أمية , بلا ميزان حق ولا عدل , اجتهد أهل البيت (ع) في كشف هذا الانحراف الخطير للأمة ؛ حفظا لهويتها الاسلامية ووحدتها وهي خير أُمة أخرجت للناس , وذلك بتعرية هذه الخلافة الباطلة , وبيان مدى بعدها وانحرافها عن الاسلام , فكان هذا الهدف من أبرز أهداف صلح الامام الحسن (ع) على الصعيد السياسي , وكانت نهضة الامام الحسين (ع) وشهادته وأهل بيته وصحابته بتلك الصورة المأساوية , وسبي نساء وأطفال العترة الطاهرة , متمماً حاسماً في تحقيق ذلك الهدف على الصعيد الارادي والعاطفي.
وبعد أن استقرت نتائج هذه المرحلة في دور أهل البيت (ع) في حماية الأُمة من الانحراف , وحفظ وحدتها على أُصول الاسلام الحق , بدأت مرحلة جديدة بدأها الامام السجاد (ع) , واتصلت حلقاتها في حياة الأئمة من بعده ,ولاسيما في عهد الصادقين (ع). وكان من أبرز ما تصدى إليه أهل البيت (ع) في هذه المرحلة , هو إحباط محاولات الخلافة المنحرفة في الزمنين الاموي والعباسي , من تحكيم سلطانهم على أساس جهل المسلمين بدينهم , وترسيخ حالة التفرق والتشرذم في إطار فرق ومذاهب شتى , من ذلك ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: ((ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق (ع) لما أقدمه المنصور بعث إلي فقال: يا أبا حنيفة , إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد , فهيئ له المسائل الشداد , فهيأت له أربعين مسألة , ثم بعث إلى أبو جعفر وهو بالحيرة فاتيته فدخلت عليه , وجعفر بن محمد جالس عن يمينه , فلما أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق مالم يدخلني لأبي جعفر, فسلمت عليه , وأومأ إلي فجلست , ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد الله , هذا أبو حنيفة , قال جعفر: نعم. ثم أتبعها: قد أتانا. كانه كره ما يقول فيه القوم أنه إذا رأى الرجل عرفه , ثم التفت المنصور إلي فقال: يا أبا حنيفة , ألق على أبي عبد الله مسائلك , فجعلت ألقي عليه فيجيبني, فيقول: أنتم تقولون كذا , وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا, فربّما تابعهم , وربما خالفنا جميعاً , حتى أتيت على الأربعين مسألة. ثم قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس)) ([175]).
وعلى الصعيد الأخلاقي والاجتماعي رسّخ أهل البيت (ع) مبادئ ومفاهيم , كانت عاملاً أساسياً في إظهار وحدة الأمة شامخة تتصاغر أمامها كل محاولات سلاطين الجور , من النيل منها , والتلاعب بمقدراتها.
من تلك المبادئ والمفاهيم ما عن الامام الصادق (ع) أنه قال لشيعته ومريديه ((خالقوا الناس بأخلاقهم, صلّوا في مساجدهم , وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم , وأن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا)) ([176]).
وعنه (ع) أنه قال لاتباعه مؤكداً ضرورة وحدتهم مع سائر المسلمين: ((من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله (ص))) ([177]).
ومنها ما عن عبد الله بن سنان قال ((سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: أوصيكم بتقوى الله ,ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذّلوا. إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {{وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً}} , عودوا مرضاهم , وأشهدوا جنائزهم , وأشهدوا لهم وعليهم , وصلّوا معهم في مساجدهم...)) ([178]).
وقد واصل أتباع أهل البيت (ع) السير على نهجهم (ع) , بترسيخ وحدة المسلمين عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً.
ولو لا كيد أعداء الاسلام وأعداء أهل البيت (ع) لوجدنا أن مساحة التوافق تصل إلى التقارب الشمولي , ولزالت كلّ هذه الفوارق والخلافات التي سعى سلاطين الجور ووعّاظهم إلى تاسيسها وتعميقها على أسس من الجهل المركب والدعوات الباطلة , فأضّرت كثيراً في بناء الأمة الواحدة , ووحدة الكلمة على هدي القران الكريم والسنة الشريفة , وأصبحت الشقّة الوهمية بين المذاهب الإسلامية تتسع وتتبلور , مكوّنة رؤىً متعصبة يتبادل أصحابها التهم دون وعي وإدراك.
وهنا نقف لنوجه دعوتنا إلى كلّ المخلصين , من علماء أعلام وقادة مجاهدين على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم الاسلامية, للعودة إلى أوليات الاسلام , وسيرة الرسول (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) , وسلوك منهج العقل والدليل في تحديد معالم الاسلام المحمدي الأصيل, وتوحيد متبنياته ومقولاته العقائدية والتشريعية وخلق أجواء الاخوّة والحوار والتفاهم البنّاء بين أبناء الأمة الاسلامية , على اختلاف مذاهبهم وفرقهم.
وبالاصرار على هذا النهج سنجد أن الفوارق والاختلافات المخلّة بوحدة الأصالة الاسلامية , ستتهاوى وتتلاشى أمام روح الأخوة والانفتاح الرحب, وأمام الدليل القاطع والبرهان الساطع وفق منطق القرآن الكريم والسنّة الصحيحة ونهج مدرسة أهل البيت, وبذلك تستحكم الأُسس المبدأية لهوية الأمة الاسلامية الواحدة عقائدياً وتشريعياً , ويكون الدين كله لله , والحمد لله رب العالمين.
[1] - البقرة:165.
[2] - آل عمران:103.
[3] - الانبياء: 92.
[4] - آل عمران: 103.
[5] - الانفال: 46.
[6] - سنن أبي داود: ج:3/ ص: 80 / ح: 2751، ابن ماجة: ج: 2 / ص:895 / ح:2683، النسائي:ج: 8 / ص: 24 ح 4746.
- [7] آل عمران:110.
[8] - السيرة النبوية لابن كثير: 1: 462،ط. دار الفكر.
[9] - النساء: 65.
[10] - جامع الاصول:1: 158.
[11] - راجع صحيح البخاري: 2، وصحيح مسلم:6، وجامع الاصول:1: 158 - 159.
[12] - راجع جامع الاصول: 1 و10 و 11، وكنز العمال للمتقي الهندي:1.
[13] - راجع جامع الاصول: 1 و10 و 11، وكنز العمال للمتقي الهندي:1.
[14] - راجع جامع الاصول: 1 و10 و 11، وكنز العمال للمتقي الهندي:1.
[15] - آل عمران: 103.
[16] - البقرة: 256.
[17] - الأنفال: 62- 63.
[18] - الانعام:153.
[19] - الشورى: 13.
[20] - الانبياء:92.
[21] - المؤمنون: 52.
[22] - المجادلة: 22.
[23] - التوحيد للصدوق: 24- 25.
[24] - التوحيد للصدوق: 22- 23.
[25] - نهج البلاغة: ج 1.
[26] - الاحزاب:56.
[27] - الاحقاف:12.
[28] - هود:17.
[29] - كنز العمال:خ: 4029.
[30] - نهج البلاغة:خ: 147.
[31] - نهج البلاغة:خ:156.
[32] - الحجر:9.
[33] - القيامة: 16- 19.
[34] - نهج البلاغة:خ:133.
[35] - نهج البلاغة:خ:198.
[36] - المائدة:48.
[37] - البقرة:121.
[38] - نهج البلاغة:خ:182.
[39] - تفسير العياشي:3:1.
[40] - الاسراء:82.
[41] - يونس:57.
[42] - فصلت:44.
[43] - بحار الانوار:92:19.
[44] - نهج البلاغة:خ:176.
[45] - شرح نهج البلاغة:19:220.
[46] - شرح نهج البلاغة:9: 217.
[47] - نهج البلاغة:خ:198.
[48] - نهج البلاغة:خ:89.
[49] - النجم:3- 5.
[50] - نهج البلاغة:ك:53.
[51] - نهج البلاغة:خ:72.
[52] - الاحزاب: 21.
[53] - الحشر:7.
[54] - التوبة:128.
[55] - آل عمران:159.
[56] - النساء:80.
[57] - النساء:64.
[58] - المجادلة:5- 6.
[59] - الحشر:4.
[60] - المجادلة:20- 22.
[61] - النساء:59- 65.
[62] - الحشر:7.
[63] - النور:47- 54.
[64] - التوبة:64- 68.
[65] - التوبة:73- 90.
[66] - النساء:81- 84.
[67] - الانبياء:92.
[68] - المؤمنون:52.
[69] - البقرة:127.
[70] - مجمع البيان:1: 223.
[71] - ابراهيم:40.
[72] - البحار:77: 127.
[73] - كنز العمال:ح:18889.
[74] - كنز العمال:ح:18889.
[75] - شرح نهج البلاغة:17: 5.
[76] - العلل وعيون الأخبار.
[77] - آل عمران:97.
[78] - الحج:27.
[79] - وسائل الشيعة:8:9.
[80] - التوبة:71.
[81] - الكافي:2: 163.
[82] - المنافقون:8.
[83] - البحار:61: 150.
[84] - الكافي:2: 166.
[85] - التوبة:71.
[86] - الأنفال:72- 75.
[87] - الكافي:2: 164.
[88] - سنن أبي داود: ج:3/ص: 80 /ح: 2751، ابن ماجة: ج: 2 / ص:895 /ح:2683، النسائي:ج: 8 / ص: 24 ح 4746.
[89] - الكافي:2: 170- 171.
[90] - آل عمران:110.
[91] - العصر:1- 3.
[92] - البقرة:119.
[93] - البقرة:26.
[94] - أمالي المفيد: 5.
[95] - ميزان الحكمة:2: 473.
[96] - غرر الحكم:2: 471:ح:4121.
[97] - نهج السعادة:3: 294.
[98] - الزخرف:78.
[99] - المؤمنون:70.
[100] - غرر الحكم:2: 358.
[101] - غرر الحكم:2: 468/ح:4105.
[102] - الاحزاب:4.
[103] - الاعراف:159.
[104] - الاعراف:181.
[105] - النساء:135.
[106] - البحار:71: 358.
[107] - كنز الفوائد:ح: 43588.
[108] - البقر:143.
[109] - الحج78.
[110] - آل عمران:140.
[111] - آل عمران:110.
[112] - الحج:41.
[113] - النحل:89.
[114] - آل عمران: 113- 114.
[115] - الأعراف:157.
[116] - تحف العقول: 358.
[117] - التوبة:71.
[118] - نهج البلاغة:ح:31.
[119] - غررالحكم:256:ح: 12394.
[120] - الحج:41.
[121] - الكافي:4: 25.
[122] - التوبة: 111- 112.
[123] - النور:55.
[124] - كنز العمال:ح:5564.
[125] - كنز العمال:ح:5614.
[126] - غرر الحكم:2: 80.
[127] - البحار:6: 111.
[128] - كنز العمال:ح:43588.
[129] - شرح نهج البلاغة:19: 306.
[130] - الكافي:5: 55- 56.
[131] - سبا:28.
[132] - الأنبياء:107.
[133] - آل عمران:110.
[134] - هود:116.
[135] - المائدة:63.
[136] - المائدة:78- 79.
[137] - المائدة:44.
[138] - التوبة:71.
[139] - تحف العقول:237.
[140] - التهذيب:6: 176.
[141] - البحار:100: 94.
[142] - لقمان:17.
[143] - الترغيب:3: 233 / رواه ابن ماجة وابن حبّان.
[144] - كنز العمال:ح:607.
[145] - المجادلة:9.
[146] - المائدة:2.
[147] - البقرة:2.
[148] - تحف العقول:23.
[149] - الكافي:2: 175.
[150] - الكافي:2: 175.
[151] - الكافي:2: 175.
[152] - البقرة:177.
[153] - المائدة:48.
[154] - الانبياء:73.
[155] - البحار:76: 13.
[156] - غررالحكم.
[157] - نهج البلاغة:خ:214.
[158] - كنز العمال:ح:44155.
[159] - غررالحكم.
[160] - غررالحكم.
[161] - تنبيه الخواطر.
[162] - غررالحكم.
[163] - نهج البلاغة:ح:32.
[164] - صحيح الترمذي 5: 662.
[165] - راجع تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزّي , ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي , وطبقات ابن سعد , وميزان الاعتدال للذهبي , والجرح والتعديل للرازي , وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي , والمعرفة والتاريخ للنسوي , وحلية الاولياء لأبي نعيم الاصفهاني , والتاريخ الكبير للبخاري , والضعفاء للعقيلي.
[166] - نهج البلاغة الكتاب 62.
[167] - تاريخ الطبري 2: 237
[168] - تاريخ اليعقوبي 2: 132
[169] - نهج البلاغة , الخطبة 134
[170] - تاريخ الطبري 2: 253
[171] - علي والخلفاء: 239
[172] - انساب الاشراف 2: 78
[173] - شرح نهج البلاغة 6: 166.
[174] - تاريخ الطبري , حوادث سنة 35 ه , الكامل في التاريخ , البداية والنهاية.
[175] - مناقب ابي حنيفة للموثق 1: 173 , جامع اسانيد أبي حنيفة 1: 222 , تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 157
[176] - الفقيه 1: 383:ح 38
[177] - الكافي 3: 380 , ح 6
[178] - البحار 71: 159 , ح 14