الثابت والمتغيّر في الفكر الديني
الثابت والمتغيّر في الفكر الديني
كامل الهاشمي
تمهيد:
البحث في إشكالية الثابت والمتغيّر بحث مهمّ وخطير في الوقت نفسه، ورغم أهمّية البحث إلاّ أنّ الباحث يتردّد ويتأمّل كثيراً حينما يريد الحديث عن إشكالية الثبات والتغيّر في «الدين» أو في «الفكر الديني»، وذلك لأنّ الحديث في الثابت والمتغير حديث غير محدّد الأبعاد وغير واضح المعالم، أضف إلى ذلك أنّ أيّة نتيجة يتوصّل إليها الباحث من وراء دراسته لإشكالية الثابت والمتغير سيكون لها انعكاساتها الكلّية على مجمل تصوّراته الدينية ومفاهيمه العقيدية ومواقفه التشريعية.
وفي الحديث عن الثابت والمتغيّر تواجه الباحث أسئلة واستفسارات عديدة، لا يمكنه التجاوز والإعراض عنها أو التقليل من أهميتها، من قبيل: هل يوجد في الدين أو الشريعة ثابت ومتغيّر؟ وما معنى الثبات والتغيّر فيهما؟ وما هي مجالات الثبات ومجالات التغيّر؟ والأهمّ من ذلك كلّه لمن تكون صلاحية تحديد الثابت من المتغيّر؟ إذ ليس من المعقول أن يفتح الباب على مصراعيه لكلّ أحد، من أجل أن يقرّر أنّ هذا الأمر ثابت
ـ(450)ـ
لا يقبل التغيير وأنّ الآخر متغيّر لا يقبل الثبات.
وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ إشكالية الثابت والمتغير ترتبط أشدّ الارتباط بإشكالية تجديد الفكر الديني، بل تُعدّ بعداً رئيسياً من أبعادها، لأنّ أيّة خطوة يراد إنجازها في مهمّة التجديد لا بدّ أن يسبقها موقف محدّد من مسألة الثابت والمتغيّر. ومن الواضح أنّ عملية التجديد لا يمكن قبولها إلاّ في ظلّ التسليم بإمكانية التغيير ولو بأدنى مستوياته.
ورغم ما كتب عن إشكالية الثابت والمتغير في «الدين» أو في «الفكر الديني» فإنّه يبقى البحث محتاجاً إلى مزيد من النظر والتدقيق، لأنّ المحصّلة النهائية للبحث لا يمكن أن تبقى مبهمة وغير مضبوطة، في الوقت الذي يتحرّك الكثيرون لحذف الكثير من الثوابت الدينية على أساس قابلية الدين أو الفكر الديني للتغيير، وأنّ الثبات المطلق أو المقيّد على أصول الدين أو فروعه يُفقد الدين والفكر الديني قدرة الفاعلية والتأثير في الأوضاع المتغيّرة والمتحرّكة التي يعيشها الإنسان المعاصر، وفي الجهة المقابلة هناك من يصرّ على أن لا متغيّر في الدين وأنّ حلال الدين حلال إلى يوم القيامة وأنّ حرامه حرام إلى يوم القيامة أيضاً، وأن لا مجال أبداً لأيّ تغيّر أو تغيير في أحكام الله سبحانه وتعالى، وربّما يعمّم بعض أصحاب هذا الرأي هذا الحكم على كلّ معارف الإسلام وعلوم الدين، من دون الالتفات إلى ضرورة التمييز بين الدين والفكر الديني.
ومهما يكن من أمر فقد حاولنا في هذا البحث أن نقدّم بعض الأفكار المتواضعة في هذا المجال، سائلين الله تعالى أن يوفّقنا للصواب وأن يهدينا طريق الرشاد، وما نأمله من وراء هذا البحث أن نساهم ولو بعض المساهمة في حلّ بعض أبعاد وجوانب هذه المشكلة القائمة.
وأما الأفكار التي نرغب في بيانها في هذا البحث فهي كالتالي:
ـ(451)ـ
الفكرة الأُولى: منطلقا الإشكاليّة:
الذي نراه أنّ إشكالية الثابت والمتغيّر تنبثق من منطلقين:
الأوّل: تتعلّق بفهم الإسلام، فهي «جنبة مفهومية»، ومبدأ وأساس هذه الجنبة هو القول بأنّ الإسلام الذي يراد لـه أن يكون خالداً فاعلاً مؤثّراً في حياة الإنسان في كلّ الأزمنة والعصور، لا يمكن لعطائه الفكري وثرائه المعرفي أن يتوقّف عند حدّ معيّن وأُفق محدّد، لأنّ البشرية تعيش على الدوام تجدّداً في أفكارها واتّساعاً في مداركها، وليس من المعقول لدين يبتغي الخلود والاستمرار فاعلاً مؤثراً في حياة الإنسان أن يعجز في وقت من الأوقات عن تقديم ما يساهم في فتح آفاق مستجدّة من التفكير والوعي لمعتنقيه ومتبعيه.
الثاني: تتعلّق بفاعلية الإسلام ودوره في الحياة فهي «جنبة عملية»، ومبدأ هذه الجنبة هو القول بأنّ فاعلية الدين الإسلامي والفكر الديني على البقاء والاستمرار والتأثير في الممارسات العملية للناس مرهونة بقدرتهما على الاستجابة لتغيّرات الظروف الإنسانية التي تتّسم بدوام التطوّر والتبدّل والتجدّد، الأمر الذي يستدعي إجابات وحلولاً متطوّرة ومتغيّرة لمشاكل ومستجدات كلّ عصر من العصور، وليس من المقبول أبداً أن تتغيّر الظروف والأحوال البشرية في الوقت الذي تتوقّف أجوبة الإسلام وحلول الفكر الديني عند إثارات الماضي ومشاكل السابقين.
والذي نستطيع قوله في الإجابة عن هاتين الإثارتين هو التالي:
أما بالنسبة إلى الإثارة الأُولى، أعني «الجنبة المفهومية» فإنّ ما يمكن قوله: هو أنّ هذه الجنبة أو الإثارة وإن غفل أو تغافل علماء ومفكرو الإسلام عن بيانها واستثارتها فإنّ الكثير من تعابير النصوص الإسلامية تدلّنا على اهتمام بالغ بضرورة استجابة الدين
ـ(452)ـ
لتطوّرات الوعي البشري، وقدرة الدين الإسلامي بشكل خاصّ على القيام بهذا الأمر.
وما تطرحه النصوص الإسلامية في هذا الشأن هو أنّ دلالات النصّ لا تتوقّف عند مستوى واحد من الفهم، بل هي تتعدّد وتتنوّع بتعدّد وتنوّع الأزمان والأشخاص ومستويات الفهم والإدراك، وأنّ النصّ لـه قابلية الانفتاح على قراءات مختلفة، تتجدد وتتسع بتجدد أفكار البشر واتّساع مداركهم المعرفية. ويمكننا القول: إنّ النصوص الإسلامية جعلت انفتاح النصّ على الأفهام المختلفة وقابليّته للقراءات المتنوّعة ميزة أساسية وحيوية من ميّزات النصّ الديني.
وهذا ما يفيدنا إيّاه الإمام عليّ عليه السلام في حديثه عن القرآن الكريم حينما يصفه بالقول: «وإنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلاّ به»(1)، وفي قوله عليه السلام: «واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يضلّ، والمحدِّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان من عمى»(2).
ونلمح الإشارة إلى هذه القابلية التي يتمتع بها النصّ الديني فيما روى العيّاشي وغيره عن جابر، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثمّ سألت ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم!
فقال لي: «يا جابر! إنّ للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وظهراً، وللظهر ظهراً يا جابر!
وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية لتكون أوّلها في شيء
_______________________________________
1 ـ المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 19، محمّد دشتي وكاظم محمّدي، مؤسّسة النشر الإسلامي، إيران – قم 1406 هـ.
2 ـ المصدر نفسه: 61.
ـ(453)ـ
وآخرها في شيء وهو كلام متّصل ينصرف على وجوه»(1).
ونتفهّم هذه القابلية أيضاً في قول الإمام الصادق عليه السلام: «ولو كانت إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية لمات الكتاب، ولكنّه حيّ يجري في من بقي كما جرى في من مضى»(2).
وهكذا تعطينا هذه النصوص الإسلاميّة فهماً واقعياً للدور الذي يقوم به النصّ الديني في فتح آفاق الناس بشكل دائم ومستمرّ على الجديد والمتغيّر في فهم خطاب الدين وكلماته.
وأمّا بالنسبة إلى الإثارة الثانية، أعني «الجنبة العملية» فإنّ بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً يمثل أفضل حلّ لمعالجة مشاكل الحياة المتجدّدة، ومن المعلوم أنّ الإسلام حينما سمح، بل وأوجب على بعض المسلمين الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعيّة، فإنّما استهدف بذلك تواصل المسلمين مع مشاكل العصر المستجدّة، عبر ما يقوم به الفقيه والمجتهد من تعرّف ودراسة لهذه المشاكل المستحدثة ومن ثمّ استنباط الرأي بصددها في ضوء القواعد الشرعية المقرّرة.
ومن الواضح أنّ الفقيه حينما يقوم بمهمّة الاستنباط لا يمكن أن يتغافل عن حيثيّات الزمان والمكان، والتغيّرات التي تطرأ على بحمل الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وعلى هذا الأساس يمكن للفقيه أن يختلف مع غيره من الفقهاء السابقين في حكم مسألة من المسائل الشرعية، وربّما أثّر تغيّر الأوضاع وتبدّل الظروف في الأسس التي يراعيها الفقيه في عملية الاستنباط نفسها، إذ إنّنا نلاحظ أنّ طريقة
_______________________________________
1 ـ مقدمة تفسير مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار، المطبوعة مقدمة للبرهان في تفسير القرآن للسيّد هاشم البحراني: 4، أبو الحسن العاملي، مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان إيران – قم، بلا تاريخ.
2 ـ المصدر نفسه: 5.
ـ(454)ـ
ومنهجية الاستنباط نفسها كانت تتطوّر وتنمو بحكم تأثّر الفقيه بما يحيط به من ظروف وما يعاصره من قضايا متنوّعة.
نعم يبقى من اللازم أن نشير في هذا المجال إلى التقصيرات التي ربّما تنشأ، وقد نشأت في بعض الممارسات الفقهية، حينما يبتعد بعض الفقهاء عن تفهم مشاكل العصر، فيعجزون عن تقديم حلول لها، أو يقدمون الحلول التي يعجز الواقع عن قبولها، وبذلك يبقى المكلّف تتجاذبه من جهة رغبته في إطاعة الحكم الشرعي، ومن جهة أخرى ضغوط الواقع التي تمنعه من تحقيق رغبته في امتثال الحكم الشرعي.
وعلى هذا الأساس نستشعر ضرورة أن يفكر المهتمّون بالشأن الفقهي الإسلامي في مسألة تطبيق الإسلام وفاعليّته في الحياة بالمستوى الذي يفكرون فيه في الإجابة عن أيّة قضيّة مستحدثة أو مشكلة مستجدّة، لأنّ الله تعالى لم يرد للإسلام أن يبقى أفكاراً ونظريّات في بطون الكتب والأسفار من دون أن يتجسّد في الواقع، ويشقّ طريقه إلى حياة الناس وممارساتهم اليومية.
الفكرة الثانية: الثابت والمتغير في الدين والفكر الديني:
يبدو من المهم جدّاً في الحديث عن الثابت والمتغيّر التفريق بين مجالين مختلفين أشدّ الاختلاف في الوقت الذي هما مترابطان أشدّ الترابط، وهذان المجالان هما: الدين أوّلاً، والفكر الديني ثانياً.
ونحن إذ نقول باختلاف المجالين لأنّنا نعي أنّ الدين يختلف في كثير من سماته عن الفكر الديني، إذ الدين هو تنزيل سماوي من قبل الله سبحانه وتعالى على رسول من رسله أو نبيّ من أنبيائه، فهو على هذا الأساس يتمتّع بقدسيّة وصيانة يتوفر عليها، بحكم كون المنزل للدين هو الله تعالى الذي ينزّهه العقل السليم عن كلّ موجبات التقصير
ـ(455)ـ
والقصور، وتبرِّئ الفطرة المستقيمة ساحته عن كلّ مقتضيات الغفلة والسهو والنسيان والخطأ والاشتباه، والمنزّل عليه الدين هو الرسول أو النبيّ الذي ضمن الله عزّ وجلّ عصمته وأمانته على تبليغ أحكام الدين ومعارفه إلى الخلق.
وإضافة إلى حكم العقل الذي يدلّنا على ضرورة تنزيه الله سبحانه عن كلّ نقص، وضرورة تنزيه الأنبياء والمرسلين عليه السلام عن كلّ تقصير وقصور في تأدية وإبلاغ رسالاتهم الإلهية إلى الخلق، فإنّ القرآن المجيد يحفل بما يؤيّد هذه الحقائق:
كقوله تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾(1).
وقوله سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ $ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ $ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾(2).
وقوله عزّ شأنه في حقّ المرسلين عليهم السلام بشكل عام:
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾(3).
وقوله سبحانه في حقّ خاتم النبيّين صلّى الله عليه وآله وسلّم بشكل خاص:
﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ $ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ $ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ $ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ $ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ $ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ $ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ $ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾(4).
وهذه البيانات التي يقدمها الدين عن نفسه تدلّنا على أنّ ثمّة فرقاً واختلافاً بين الدين والفكر الديني، لأنّ الفكر الديني وإن اتّخذ من الدين منطلقاً وأساساً فيما يريد تبنّيه من أفكار ومفاهيم، إلاّ أنّه لا يعدو أن يكون قراءة بشرية للدين قابلة لأنّ تصيب حيناً
_______________________________________
1 ـ سورة الإسراء: 105.
2 ـ سورة الشعراء: 192 – 194.
3 ـ سورة آل عمران: 79.
4 ـ سورة الحاقة: 40 – 47.
ـ(456)ـ
وتُخطئ أحياناً أُخرى، وأن تعي مضمون الدين مرّة وتنحرف عنه مرّة أُخرى، وهذا الأمر يجعل الفكر الديني لا يرقى إلى مستوى الدين إلاّ بمقدار ما يصيب من حقيقة الدين وواقعيّته.
ولقد كنّا بحاجة إلى التنبيه على هذا الفرق بين الدين والفكر الديني لشدّة الارتباط والتداخل بينهما، ممّا يجعل مسألة التفريق بينهما في كثير من الأحيان مسألة معقّدة، لا يتيسّر خلالها التمييز بين ما هو من الدين وما هو فهم بشري للدين، وهذا ما يؤكّده التحسّس الشديد من قبل بعض المتدينين للحديث عن إشكالية الثابت والمتغيّر، على أساس الاعتقاد بأنّ الكثير من الأفكار التي يجري الحديث عن قابليتها للتغير أو التطوير هي أفكار من صميم الدين لا تقبل النقاش والمجادلة.
ولا يتورّع بعضهم عن وصم كلّ من أراد مناقشة تلك الأفكار بالخروج عن الدين ومحاولة إفساد عقائد المسلمين، في الوقت الذي ينبغي أنّ يعي هؤلاء الأشخاص أنّ القول بوجود متغيّرات في الدين أو في الشريعة لا يعني بحال من الأحوال أن لا ثابت في الدين أو الشريعة، لأنّ الدين إذا ما فسّرناه بمجموع التعاليم والأحكام والعقائد والحقائق الوجودية، التي يأتي بها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم من قبل الله سبحانه وتعالى مباشرة بواسطة الوحي الإلهي، أو عن طريق أحاديث النبيّ أو الرسول الخاصّة، والتي لا تكون وحياً سماوياً ولكنّها تكتسب مصونية وقدسية بحكم ارتباط النبيّ أو الرسول بالله تعالى ارتباطاً يمنعه من التحدّث بغير ما يرتضيه الله سبحانه، ومن هنا يكون كلام المرسل من قبل الله تعالى كلّه حجّة، لأنّه يتحدّث عن الله جلّ جلاله وينقل مراده إلى خلقه، وهو ما نعيه من قوله تعالى في شأن نبيّه الكريم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى $ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى $ إِنْ هُوَ إِلَّا
ـ(457)ـ
وَحْيٌ يُوحَى﴾(1).
نقول: إذا فسّرنا الدين بهذا التفسير الواسع فإنّنا نلاحظ أنّ الدين يحتوي حينئذ على أحكام شرعية قابلة في بعض مجالاتها للتغير على أساس تغيّر الظروف، وتبدّل الموضوعات الخارجية، كما سيأتي توضيحه في الفكرة الثالثة بإذنه تعالى.
وبهذا التفسير للدين يحوي الدين مبتنيات عقيديّة ورؤى فلسفية، وهذه الجنبة من الدين وإن كانت لا تقبل التغيّر بلحاظ ما تكشف عنه من واقع وجودي لا يقبل التبدّل والتغيّر، فإنّها قابلة للتغيّر في ضوء اتّساع آفاق الفكر البشري وتجدّد فهمه للدين، واكتشافه أبعاداً في الدين لم يكتشفها السابقون ولم يتعرفوا إيّاها. وهذا ما سنتحدّث عنه بشكل مفصّل في الفكرة الثالثة أيضاً.
ومن هنا ندرك أنّ القول بوجود مجالات قابلة للتغير في الدين – في ضوء التفسير المتقدّم للدين – لا يعني أنّنا لا نمتلك ثوابت دينية غير قابلة للتغير والتحويل، إذ الدين قد جاء لإصلاح الوضع الإنساني في جوانبه المتغيّرة والثابتة، فلا بدّ أن يحمل جنبة ثبات وجنبة تغيّر.
وبطبيعة الحال حينما نقول بتغيّر الفهم الديني فهذا لا يعني أن لا ثوابت في الفهم الديني، إذ كما أنّ الدين يحوي حقائق غير قابلة للتغير والتبديل، فكذا الفهم الديني فيه الكثير من الحقائق التي لا يمكن اعتبارها حقائق زمانية قابلة لأنّ تلغى أو تبدل، ولا يستطيع أحد أن يزعم أن لا حقائق ثابتة في فهمنا الديني، وذلك لأنّنا نجزم أنّ لبني الإنسان عقولاً تدرك بها العديد من الحقائق والمعارف، وجملة غير يسيرة من هذه الحقائق والمعارف تتطابق فيها الحقيقة الدينيّة مع الفهم البشري.
_______________________________________
1 ـ سورة النجم 2 – 4.
ـ(458)ـ
الفكرة الثالثة: مجالات الثبات والتغيّر في الدين:
من أجل أن يكون الحديث في الثابت والمتغيّر حديثاً محدد الأبعاد واضح المعالم، كنّا بحاجة إلى الحديث عن مجالات الثبات والتغيّر بشكل مفصّل، وإلاّ يبقى الحديث في العديد من جوانبه يكتنفه الغموض والإبهام، في الوقت الذي يكون عرضة لسوء الفهم من قبل بعضٍ.
والذي نودّ قوله في هذا المقام أنّ الدين – بما ذكرنا لـه من تفسير متقدّم – يمكن اعتباره منظومة فكرية شاملة وواسعة، لا يمكن اختزالها في بعد واحد أو جنبة معينة من أبعاد وجوانب الحياة والمعرفة ؛ وسنتكلّم عن كلّ الأبعاد الرئيسية في الدين مع الإشارة إلى طبيعة الثبات أو التغيّر التي تحكم كلّ بُعد من الأبعاد المذكورة، وما يمكن ذكره من أبعاد رئيسية في الدين هو:
أوّلاً: البعد العقيدي:
إذ الدين يشتمل أول ما يشتمل على رؤية كونيّة وجوديّة تستهدف تقديم صورة جليّة عن جملة من الحقائق الوجودية، وفي مقدّمة تلك الحقائق التي يبينها الدين حقيقة الخالق والربّ المطلق، وأنّه واحد لا شريك لـه، وأنّ من صفاته العلم والحياة والقدرة، إلى غير ذلك من الصفات الكمالية الوجودية التي لا يمكن أن تنفكّ ذات البارئ سبحانه وتعالى عنها.
وممّا يُعنى الدين ببيانه في هذا المجال جملة من المعارف المتعلّقة ببدء عالم الخلقة، وكيفيّة صنع الله عزّ وجلّ وإتقانه لعالم التكوين، وبدء خلقة الإنسان باعتباره أشرف مخلوق خلقه الله تعالى بيده، وسخّر كلّ ما في الكون لأجله وفي خدمته. ويهتمّ الدين في هذا المجال بتعريف الإنسان بكثير من الغيبيات التي يعجز عقل وإدراك البشر عن فهمها
ـ(459)ـ
والإحاطة بكنهها والاطّلاع على حقيقتها، من قبيل تعريفه بتفاصيل المستقبل الأُخروي للإنسان، واطلاعه على كنه الموجودات الأُخرى التي يعجز حسّه المباشر عن إدراكها، كالملائكة والجن والشياطين.
وهذه المعارف وما شابهها هي ما يمكن أن تمثّل «البعد العقيدي» في الدين، باعتبارها تكشف عن مجموعة من المعارف التي يلزم الإنسان المؤمن الاعتقاد والتصديق بها، وجملة من هذه المعارف يكون دور الدين فيها هو دور الهداية والإرشاد لأنّ العقل الفطري المودع في الإنسان يستقلّ بإدراكها.
وحينما نريد أن نبحث عن مجالات التغيّر والثبات في البعد العقيدي فإنّنا سنجد أنّ الحقيقة التي يكشف عنها الدين في المجال العقيدي تحكي عن واقع لا يقبل التغيّر في ذاته؛ فالوحدة والخالقية والرازقية والقدرة وغير ذلك من الكمالات الوجوديّة التي يثبتها الدين للخالق عزّ وجلّ غير قابلة لأنّ تُنفى عنه في وقت من الأوقات، وكذا الأمر في بقيّة الحقائق الكونية التي أشار إليها الدين.
نعم ما يقبل التغيّر هو مستوى فهمنا وإدراكنا – نحن البشر – لهذه الحقائق، فعلى سبيل المثال ربّما كان بعض الأوائل يعي أنّ الله سبحانه واحد بالوحدة العددية، ولكنّنا اليوم نرى أنّه تعالى واحد بالوحدة الحقّة الحقيقية وليس واحداً عددياً، وهكذا الأمر في جملة من الحقائق الدينية التي يتغيّر فهم البشر لكنهِها، ويتبدّل وعيهم لحقيقتها في ضوء ما يستجد لهم من وعي، وما يتطور لهم من معارف وما ينفتح لهم من آفاق.
وتطور الفهم الإنساني وتغيّر وعي البشر لهذه الحقائق الدينية ربّما نلمح الإشارة إليه فيما روي عن الإمام علي بن الحسين السجّاد عليه السلام من أنّه سئل عن التوحيد فقال: «إنّ الله عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل الله تعالى: قل هو الله أحد، والآيات من سورة الحديد إلى قوله: عليم بذات الصدور. فمن رام وراء
ـ(460)ـ
ذلك فقد هلك»(1).
ثانياً: البعد التشريعي الثابت:
جاء الدين يحمل الكثير من التشريعات والقوانين التي استهدفت تنظيم حياة الإنسان وعلاقاته فيما يرتبط بعلاقته مع ربّه ومبدعه، وفيما يرتبط بعلاقته مع الآخرين من بني جنسه، وفيما يرتبط بعلاقته مع الطبيعة وما سخّر الله لـه من نعم ومخلوقات. وهذه التشريعات تتأسّس على مبدأين رئيسين:
أحدهما: مبدأ الولاية الإلهية: والذي على أساسه يشرّع الله سبحانه التشريعات لعباده باعتباره الولي الحقيقي لهم، ولا ولاية لأحد من الخلق على غيره إلاّ بتبع ولايته عزّ وجلّ، وإلى هذا المبدأ أشارت العديد من آيات الذكر الحكيم، كقوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾(2).
وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾(3).
وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (4).
والآخر: مبدأ الحكمة والغائية: والذي يعني فيما يعنيه أنّ الله عزّ شأنه لم يخلق الخلق عبثاً وبلا غاية، وأنّ فعل ذلك في حقّه مستحيل ؛ وإلى تثبيت مبدأ الغائية ونفي مبدأ العبثية أشار تعالى بقوله:
_______________________________________
1 ـ تفسير نور الثقلين 5: 706، عبد علي بن جمعة الحويزي، المطبعة العلمية، إيران – قم، بلا تاريخ.
2 ـ سورة البقرة: 107.
3 ـ سورة التوبة: 116.
4 ـ سورة الشورى: 28.
ـ(461)ـ
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(1).
ومن المعلوم أنّ الحياة الإنسانية لا تستقيم من دون تشريع قانون يحدّد للناس وظائفهم ويبيّن حقوق كلّ فرد منهم بحيث لا يلزم تصادم وتضارب في المصالح ؛ والمبدأ المذكور يستدعي أن يشرّع الله سبحانه وتعالى للناس مثل هذا القانون، وهو الأمر الذي تعهّد البارئ عزّ اسمه به عن طريق إرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام بالرسالات السماوية التي اهتمّت بتحقيق هذا الأمر.
وفي هذا المجال نجد أنّ كلّ رسالة من الرسالات السماوية جاءت بتشريعات معيّنة، وكانت تلك التشريعات تبقى سارية المفعول في حقّ أتباع الرسالة إلى أن تأتي شريعة إلهية أُخرى ناسخة لها، ولكن مع ذلك كلّه فقد بقيت الكثير من التشريعات مشتركة بين كلّ الشرائع الإلهية ولم تكن تتبدّل أو تتغيّر، وبمقتضى الأصل الأوّلي فإنّ كلّ تشريع ثبت أنّ الله تعالى شرّعه فهو حجّة على العباد لا تجوز لهم مخالفته وتغييره عمّا هو عليه.
وفي الدين الإسلامي توجد الكثير من التشريعات – سواء المتعلّق منها بالجانب العبادي أو غيره – تتمتّع بصفة الثبات والاستقرار، ولم تكن هذه التشريعات مرتبطة في تشريعها بمصلحة آنيّة، حتى يقال بإمكانية انتفاء ذلك التشريع بانتفاء تلك المصلحة، وربّما كانت بعض التشريعات ليس وراءها من غاية غير امتحان العباد في الطاعة والتسليم لله وأمره، فلا معنى للبحث عن قابلية مثل هذه التشريعات للتغيير على أساس القول بوجود مصالح معيّنة قد استنفدتها تلك التشريعات.
فالأصل الأولي يقتضي – إذن – الالتزام بمضمون كلّ تشريع إلهي إلاّ أن يثبت نسخه أو انتهاء أمده أو تغيّر موضوعه أو طروِّ تخصيص أو تقييد لـه، وهذه أمور يقرّرها من نظر في أحكام الله تعالى واستكمل كلّ ما لـه مدخلية في معرفة الأحكام الشرعية.
_______________________________________
1 ـ سورة المؤمنون: 115.
ـ(462)ـ
ثالثاً: البعد التشريعي المتغيّر:
ذكرنا فيما سبق أنّ للإنسان جنبتين: جنبة ثبات وجنبة تغيّر، ومن الطبيعي أن تراعي الشريعة الإلهية الجنبتين معاً، فتشرّع من التشريعات ما يتوافق وثوابت الإنسان، وهو ما اصطلحنا عليه بـ«البعد التشريعي الثابت»، وتشرّع من التشريعات ما يراعي الظروف والأحوال والمصالح المتغيّرة للإنسان، وهو ما يمكننا أن نصطلح عليه بـ«البعد التشريعي المتغيّر» وتسليم كلّ فقهاء الإسلام بوجود أحكام أوليّة وأحكام ثانويّة في التشريع الإسلامي يُعد تسليماً بهذه الحقيقة وإذعاناً لها ؛ ونجد في بعض الممارسات التاريخية للأئمّة عليهم السلام ولبعض فقهاء الإسلام ما يدلّل على قابلية بعض التشريعات للتغيير في ضوء المصالح والمفاسد المتجدّدة.
وعلى هذا الأساس لا نعتقد أنّ أصل المسألة يقبل التشكيك أو الرفض، وإنّما الكلام في الجزئيات وكون التشريع الكذائي لـه قابلية الخضوع للتغيير، أو التعطيل المؤقت أم أنّه لا يقبل التغيير والتعطيل على كلّ حال، ومهما حصل من اختلاف بين الفقهاء في مثل هذه الأمور فهو اختلاف طبيعي تقتضيه طبيعة الوسائل المعرفيّة المتوفّرة للفقيه، والتي على أساسها يقرّر رأيه الفقهي في أيّ مسألة حياتية تواجهه أو تواجه أحداً من المكلّفين، ولا يلام الفقيه في أيّ حكم يتوصل إليه ما دام قد استفرغ جهده وبذل سعيه في البحث عن الحقّ والأخذ بما قام عليه الدليل والبرهان.
نعم ما يلزم الفقيه الانتباه إليه في عملية الاستنباط هو: عدم إمكانية فصل استحصال الرأي في المسائل الشرعيّة عن محاولة معرفة حيثيّات الواقع وملابساته، إذ إنّ معرفة الفقيه بهذه الحيثيات وتلك الملابسات يساهم أولاً: في تأسيس عملية الاجتهاد على اطلاع مفصّل على كلّ ما من شأنه أن يكون دخيلاً في استحصال الرأي الشرعي في المسألة مورد البحث، ويساهم ثانياً: في ابتعاد الفقيه عن فرض حكم على المكلف يعجز
ـ(463)ـ
عن امتثاله، فيلجأ إلى التحايل على الشرع والتلاعب بأحكامه.
صحيح إنّ الوظيفة الرئيسية للفقيه هي بيان الحكم الشرعي للمكلّف، وليس من وظيفته مراقبة امتثال المكلف للحكم الشرعي وعدمه، ولكن ليس من المعقول أن يتجرّد الفقيه لإصدار الأحكام الشرعية بحقّ المكلّفين من دون مراعاة لظروفهم الخاصّة، ومن دون تفهّم الإمكانيات المتاحة في الواقع لامتثال الحكم الشرعي من قبل المكلف.
وممّا لـه دلالته الخاصّة في اعتراف الإسلام بالبعد المتغيّر في حياة الإنسان ومراعاته لهذا الأمر هو مبدأ الاجتهاد الذي حثّ الإسلام على ممارسته، حتّى أنّ فقهاء المسلمين اعتبروه واجباً كفائيّاً لا بدّ أن يتفرّغ للقيام به بعض المسلمين، شأنه شأن أيّ وظيفة حياتية لا يستغني الناس عمّن يقوم بها، وهذا الشأن الذي أُعطي لمهمّة الاجتهاد من قبل الإسلام ليس إلاّ لغرض جعل الشريعة حيّة فعّالة في حياة الناس وممارساتهم العملية، ومن أجل أن لا تتحوّل قوانين الشريعة إلى مقرّرات جامدة تفتقد الفاعلية والتأثير.
وخلاصة ما يمكن قوله في هذه النقطة من البحث: أنّ إثبات أو نفي قابلية حكم من الأحكام للتغيّر مرهون بما يستفيده الفقيه من أدلّة إثبات الحكم المعني بالبحث، فهل ورد الحكم مورد التعبد المحض بحيث لا يمكن أن يّطلع الفقيه على ملاك تشريع الحكم؟ أم أنّ الحكم في تشريعه وإثباته خضع لمراعاة مصلحة آنيّة معيّنة بحيث يطمئنّ الفقيه بأنّ الحكم يدور مدارها نفياً وثبوتاً؟
فإن كان الحكم من قبيل الأوّل فلا يمكن للفقيه أن يُخضع هذا الحكم للتغيير، إلاّ بعنوان ثانوي آخر يدّعي الفقيه حكومته على العنوان المثبت للحكم الشرعي المنظور، كعناوين نفي العسر والحرج والضرر.
وإن كان الحكم الشرعي من قبيل الثاني فإنّ الفقيه لا يمتنع عليه أن ينفي أو يغيّر
ـ(464)ـ
الحكم الشرعي في ضوء انتفاء المصلحة المثبتة لـه، أو تبدّلها إلى مفسدة لا يرضى الشارع بتحقّقها في الخارج.
وفي واقع الأمر أنّ الفقيه لا يقوم بأيّ تغيير لحكم من أحكام الله تعالى، وإنّما هو يشخّص أنّ موضوع الحكم المعيّن قد تغيّر عمّا هو عليه، فمن الطبيعي أن يتغيّر الحكم لأنّ الحكم يتبع موضوعه نفياً وثبوتاً.
رابعاً: البعد الاجتماعي:
الحديث عن الثابت والمتغيّر في البعد الاجتماعي من الدين حديث لـه أهمّيته الخاصّة، باعتبار أنّ البعد الاجتماعي يستوعب قسطاً كبيراً من تعاليم الدين، إذ إنّ جميع الممارسات السلوكية والآداب الخلقيّة ومظاهر التعامل الاجتماعي التي يتميزّ بها المجتمع المسلم وتمثل تشخّصه الاجتماعي العام تندرج ضمن هذا البعد.
ولقد حرص الإسلام على صبغ المجتمع المسلم بصبغة متميّزة، تعكس طبيعة القيم الدينيّة والإنسانية والخُلقية التي يؤمن بها هذا المجتمع، وهذه الصبغة التي أراد الإسلام أن يصبغ بها المجتمع المسلم لم تكن تستهدف إيجاد قطيعة وانفصال بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأُخرى، ممّن يعايشون المسلمين ويجاورونهم، وإنّما استهدف الإسلام إظهار المجتمع المسلم بمظهر اجتماعي وخلقي وإنساني، يجسد من خلال نوعية علاقاته الاجتماعيّة طبيعة القيم الخلقية التي أراد الدين الإسلامي أن يدعو البشرية إليها، وبذلك يتحوّل المجتمع بوصفه كتلة اجتماعية متناسقة ومتوافقة إلى أُمّة واحدة، تدعو الآخرين إلى قيم الإسلام والسماء، بما تمثّله من سلوكيّات وممارسات على أرض الواقع ؛ ومن هنا تتعدّد الدعوات الإلهية لأفراد المجتمع الإسلامي، بوصفهم أُمّة واحدة تتحمل مسؤوليّة تجسيد قيم رسالة ربّانية قيّمة، بضرورة امتثال وتحقيق تلك القيم في حياتهم الاجتماعية، من أجل أن يمثّلوا القدوة للآخرين على مستوى الأُمّة، كما يرغبون أن يمثّلوها على
ـ(465)ـ
مستوياتهم الفردية والذاتية.
وهناك العديد من الخطابات الإلهية التي وجّهت إلى المسلمين بوصفهم أُمّة واحدة، كقوله تعالى:
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ $ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(1).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(2).
ولقد سعى الإسلام لإعطاء المجتمع الإسلامي تمايزاً خاصّاً على أساس استشعار أفراده بأنّهم أُمّة واحدة يتّحد جميع أفرادها في المصير،ويشتركون في تحمّل المسؤولية الإلهية في الاستخلاف على الأرض وإعمارها وإصلاحها وهداية البشرية إلى الصراط المستقيم، فقال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(3).
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾(4).
﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(5).
﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا
_______________________________________
1 ـ سورة آل عمران: 104 – 105.
2 ـ سورة المائدة: 8.
3 ـ سورة آل عمران: 110.
4 ـ سورة البقرة: 143.
5 ـ سورة الأنبياء: 92.
ـ(466)ـ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(1).
وعلى هذا الأساس ندرك أنّ الأُمّة الإسلاميّة تتحمّل مسؤولية عظيمة في تجسيد القيم والمُثل الأخلاقية والإنسانية التي دعا إليها الإسلام على أرض الواقع، ومن الضروري لهذه الأُمّة التي تريد النهوض بهذه المهمّة الثقيلة أن تعي متطلّبات الدور التاريخ الذي تريد الحركة والانطلاق في أجوائه. والذي يُعطي للأُمّة هذا المستوى من الوعي هو معرفتها بخصائص المجتمع ونوعيّة القيم والأفكار التي تتحكّم في صياغة مواقف أفراده وردود أفعالهم. والمرونة في التعامل مع المجتمع وتفهم الأساليب المناسبة لتغييره وتطويره، والانفتاح على مشاكل كلّ عصر وظروفه الخاصة به هي الأمور التي - تمنح من يرغب في تغيير مجتمعه إلى الأفضل - القدرة على إنجاز هذه المهمّة.
ومراعاةً لتغيّرات الأحوال والظروف الاجتماعية في الأداء الاجتماعي التغييري نلمح إشارات جزئية إليه في بعض مواقف أئمّة أهل البيت عليهم السلام من بعض قضايا عصرهم، كما في موقف الإمام علي عليه السلام من إصرار بعض المسلمين على خضب لحاهم باعتباره سنّة كان يمارسها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، بينما رأى أمير المؤمنين عليه السلام أن مسوّغات الالتزام بهذه السنّة والإصرار عليها بوصفها مظهراً اجتماعياً يميّز المسلمين عن غيرهم قد انتفت، فقد سئل عليه السلام عن قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود»، فقال عليه السلام: «إنّما قال صلّى الله عليه وآله وسلم ذلك والدين قُلٌّ: فأمّا الآن وقد اتّسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامرؤٌ وما اختار»(2).
ففي هذا الإرشاد الاجتماعي من قبل أمير المؤمنين عليه السلام نلاحظ استجابة مرنة لمقتضيات الزمان، فإذا كان ما يسوغ في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الاهتمام بتغير الشيب وإخفائه وهو إظهار المسلمين بمظهر الشباب المقتدرين في مواجهة الأعداء المحيطين بهم،
_______________________________________
1 ـ سورة آل عمران: 103.
2 ـ المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 106.
ـ(467)ـ
ممّا يساهم في إضعاف حالة الاستقواء لدى العدوّ الحاصلة من موقع الشعور بقلّة عدد المسلمين وندرة الشباب المجاهدين بينهم، فإنّ هذه الحالة قد انتفت وصار المسلمون هم الكثرة المسيطرة والفاعلة في المجالات الاجتماعية العامّة، ممّا يدفع الحاجة للتظاهر بمظهر القوّة والاقتدار أمام الأعداء، بعد أن اتّسع نطاق الإسلام وقويت شوكة المسلمين وكثّر الله قلتهم وأظهرهم على عدوّهم.
وعلى كلّ حال فإنّ الاستلهام من موقف أمير المؤمنين عليه السلام هذا يهدينا إلى مجالات التغيّر، التي يمكن لنا الانفتاح عليها في تفعيل عملية التغيير الاجتماعي، في ضوء وعي وإدراك المقاصد الكلّية للإسلام وشريعته السمحاء.