مكانة الإنسان المكلّف في المناهج الاجتهادية

مكانة الإنسان المكلّف في المناهج الاجتهادية

 

 

مكانة الإنسان المكلّف في المناهج الاجتهادية

 

محمد فاروق النبهان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

حظي الإنسان في القرآن الكريم باهتمام متميّز، سواء من حيث مكانته الإنسانية أو من حيث حقوقه المادّية، وتعتبر لفظة «الخلافة» من أبرز الدلائل على هذه المكانة، التي تؤهّله لخلافة الأرض، والتحكّم في أمرها والنظر في شؤونها، والاستفادة من خيراتها وتطوير وسائل الحياة فيها قال تعالى:

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(1).

 

والخلافة تفيد معاني عّدة:

أوّلها: معنى التكريم ؛ والتكريم هو المعنى الأوضح، من دلالة الآية الكريمة، ويراد بالخليفة المؤتمن على شؤون الخلق في هذه الأرض، والذي يضمن استمرار الحياة فيها، لكي تظلّ هذه الأرض عامرة بالحياة.

_______________________________________

1 ـ سورة البقرة: 30.

ـ(436)ـ

ثانيها: معنى التكليف ؛ والتكليف واضح في معنى الآية، والإنسان هو المكلّف، نظرا لما زوّده الله به من إمكانات التعقّل والتمييز والفهم، والتكليف يتطلب المسؤولية، والإنسان مسؤول عن كلّ ما يُكلّف به وما يصدر عنه.

و«المكلّف» في المصطلح الأصولي هو من يتوجّه إليه الخطاب، ولابدّ في التكليف من مشقّة، والغاية من التكليف إصلاح حال الخلق في حياتهم، ومنع النظام والعدوان، وإقامة أنظمة اجتماعية تضمن كرامة كلّ إنسان وحقّه في الحياة، ولهذا أنزل الله الرسل ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(1). ومن هذا المنطق ارتبط التكليف بأهليّته، وركن الأهليّة العقل، لأنّه أداة الفهم وأداة التمييز، ولكي يكون العقل في موطن الحماية والحفظ فقد حرّم الإسلام كلّ الوسائل التي تمنع العقل من أداء مهمته في التمييز والفهم والتفكير تجسيدا لمعنى التكليف، وتأكيداً لثقة الإسلام بالإنسان، وتمكيناً للعقل البشري من أن يباشر مهمّته التكليفية باطمئنان، ويرفع التكليف عندما يكون هناك سبب يمنع العقل من أداء مهمّته، بسبب صغر أو جنون.

وخاطب الإسلام العقلاء من أهل التكليف بخطاب شرعي، وترك لهم حرّية التفسير والتأويل فيما يحتمل ذلك من الألفاظ والدلالات رحمة بهذه الأُمّة وتيسّراً لشؤونها، فما كان قطعي الثبوت والدلالة من النصوص فالحكم فيه واضح ولا يقبل الاجتهاد، وما كان ظنّي الثبوت أو الدلالة منها فالأمر فيه متروك لأهل العلم والرأي ممّن توفرت فيهم أهليّة الترجيح والاجتهاد، وهذا هو الموطن الذي تعدّدت فيه الآراء، وبرزت فيه مواطن الخلاف، وظهرت فيه مدارس فقهيّة وتميزت كلّ مدرسة بمنهجها.

والتكاليف الشرعية عامّة وشاملة، لأنّ الخطاب الشرعي موجّه لكلّ مكلف من غير تمييز لأنّ الشريعة جاءت لإصلاح شأن العباد، ولا يتحقّق هذا الإصلاح إلاّ عندما

_______________________________________

1 ـ سورة النساء 165.

ـ(437)ـ

يكون الحكم عامّا وشاملا، فلو وقع استثناء فئة بسبب موقع أو بسبب صفة، انعدمت الفائدة منه، ووقع الشكّ في مدى عدالة الحكم ونزاهته.

والعموميّة لا تعني مطلق العموم، وإنّما تعني أنّ من توفّرت فيه شروط التكليف فيجب أن يخضع لهذا التكليف، ومن انتفت فيه هذه الشروط سقط عنه التكليف، بحيث تشمل هذه القاعدة جميع العباد.

 

الإنسان في المبادئ الأصولية:

ومن هذا المنطلق أقرّت الشريعة مبادئ أُصولية تحقّق هذه الغاية الإنسانية وتؤكِّد احترام الشريعة لإنسانية الإنسان، وأهمّ هذه المبادئ ما يلي:

أوّلاً: ربط المقاصد الشرعية بمصالح العباد، سواء كانت مقاصد ضرورية أو مقاصد حاجية أو مقاصد تحسينية، ومصالح العباد واضحة في كلّ المقاصد، لأنّ غاية الشريعة إصلاح شؤون الخلق، ودرء الأخطار والمفاسد التي تهدّد حياتهم ومصالحهم وتتجاهل حقوقهم الإنسانية، فالعبادات شُرِّعت لإقامة الدين، والعقوبات شُرِّعت لدرء المفاسد.

ثانياً: رفع المشقّة ودفع الحرج عن الناس، وذلك لأنّ المشقّة تتنافى مع التكريم، وتناقض مبدأ احترام إنسانية الإنسان، ومن هذا المنطلق أقرّت الشريعة مبدأ الرخصة الشرعية في حالات المشقّة كالسفر والمرض والتمست العذر لهؤلاء في قبول تكليف

ـ(438)ـ

مخفّف، يناسب طاقتهم ولا يشقّ عليهم بما لا يطيقون.

ثالثاً: النهوض بمستوى سلوك الإنسان، لكي يكون في موطن التميّز سلوكاً وأدباً ونظافة، ولهذا أقرّت الشريعة أحكاما منظّمة لعادات الإنسان، تتعلّق بنظافته وطهارته وآدابه، لكي يكون في مستوى التكريم.

رابعاً: حرّمت الشريعة جميع أنواع السلوكيات المنافية لكرامة الإنسان، كالظلم والعدوان، والتمثيل بالموتى وقتل الأطفال والنساء في الحروب، وإهدار كرامة الأسرى، ودعت إلى احترام الكهول والأطفال.

ومن منطلق احترام الشريعة الإسلامية لحقوق الإنسان صاغ فقهاء الإسلام قواعد شرعية، مستمدّة من النصوص الشرعية من قرآن وسنّة، وممّا أجمع عليه علماء الإسلام، واعتبروا هذه القواعد ما بني عليه الفقه الإسلامي، ومن أهمّ هذه القواعد ما يلي:

أوّلا: الحرج مرفوع، والحكمة من هذه القاعدة أنّ التكليف الشرعي غايته الإصلاح، ولا إصلاح مع الحرج والمشقة وتكليف الإنسان بما لا يطيق، وهذا مظهر واضح لاحترام إنسانية الإنسان في مجال التكليف الشرعي.

ثانياً: الضرورات تبيح المحظورات، والحكمة من هذه القاعدة دفع الضرر عن الإنسان، ففي حالة الضرورة يجوز لـه أن يأكل الميتة إذا خاف على حياته، ويجوز لـه أن يشرب الخمر في حالة العطش، وأجاز الفقهاء للإنسان أن يدافع عن حياته بكلّ الوسائل الممكنة.

وأقرّ الفقه الإسلامي أحكاما في مجال العبادات والمعاملات لدفع الحرج والمشقّة عن الناس، في حالات المرض والسفر والجهل والنسيان والإكراه والصغر والجنون، كما التمسوا العذر للناس فيما عمّت به البلوى من أنواع المعاملات التي تتضمّن الغبن اليسير.

ـ(439)ـ

وهذه المبادئ والقواعد والأحكام تؤكّد عظمة الفقه الإسلامي في إقراره لمبدأ حقوق الإنسان، ويعتبر النموذج الإسلامي فيما يتعلّق بهذا المفهوم النموذج الأفضل والاشمل، لأنّه ينطلق من منطلق ترسيخ قيم اجتماعية تجعل التفاوت بين البشر من السلوكيات المنبوذة والمكروهة في المجتمعات الإسلامية التي تدين في رؤيتها لكرامة الإنسان وحقوقه من عقيدة راسخة مكينة في النفس، ومن تربية إسلامية تدين كلّ أنواع التمييز العرقي والقومي وتجعل البشر في موطن العبودية لله تعالى، يلتقون في رحاب الانتماء الإنساني على صفة التكليف، التي لا تفرّق بين البشر، وتجعل معيار التميّز خاضعا لسلوكيات الاستقامة وإرادة الخير.

 

مكانة العقل البشري في الإسلام:

ومن أبرز المواقف الإسلامية التي تجلّت فيها ثقة الإسلام بالإنسان «الاحتكام إلى العقل البشري» فيما لم يرد به نصّ من الوقائع والنوازل؛ ممّا يدخل في إطار الأحكام الاجتهادية؛ والاجتهاد هو المصدر العقلي الذي أقرّته الشريعة الإسلامية واحتكمت إليه، واعتبره علماء الأُصول من المصادر الأصيلة، ووضعوا لـه قواعده وضوابطه لكي يكون أداة لاستكشاف الحكم الشرعي.

ومجال الاجتهاد محدّد، فلا يقع الاجتهاد فيما ورد فيه نصّ، إلاّ إذا كان هذا النص ظنّي الثبوت أو ظنّي الدلالة، وفي هذه الحالة يكون مجال الاجتهاد البحث عن مدى قطعيّة الدليل أو عن مدى قطعيّة الدلالة، ومن هذا المنطلق عكف علماء الحديث على وضع علم مصطلح الحديث، لمعرفة مدى صحّة الحديث، وفرّقوا بين الرواية والدراية، واشترطوا لصحّة الرواية الضبط والعدالة، لئلّا يقع الخلط بين ما هو صحيح وما هو موضوع، واستطاع علماء الحديث أن يضعوا معايير للرواية الصحيحة، وأن يحدّدوا أنواعها، وأن

ـ(440)ـ

يبحثوا عن شروط قبول الرواية وضوابطها، وعلل الحديث وعلم الرجال.

وفي معرض البحث عن قواعد الاستنباط من النصوص النقلية وضع علماء الأُصول معايير لغويّة، وبحثوا في علاقة اللفظ بالمعنى، من حيث المعنى الذي وضع لـه كالخصوص والعموم، أو من حيث المعنى الذي استعمل فيه كالحقيقة والمجاز والصريح والكناية، أو من حيث خفاء المعنى وظهوره، أو من حيث طرق الوقوف على مراد المتكلّم سواء في دلالة العبارة أو دلالة الإشارة.

ويعتبر «القياس» من أبرز المعايير الاجتهادية التي يعتمد عليها العقل البشري في إلحاق الفروع بالأصول، والقياس هو أداة العقل لتوليد أحكام شرعية في المسائل المستحدثة والنوازل الطارئة، ويعتمد القياس على «علّة» وهي الوصف الذي أضاف الشرع الحكم إليه وأناطه به ونصبه علامة عليه، ومن اليسير على العقل البشري أن يكتشف علّة الحكم فيما هو منصوص عليه من الأحكام الشرعية المنظّمة لمصالح البشر، والمحقّقة لمقاصد الشريعة من حيث المصالح والمفاسد، فما كان مصلحة فهو في موطن الاعتبار، وما كان مفسدة فهو في موطن الالغاء، ويتّسع دور العقل البشري في مجال القياس بحثا عن علل الأحكام، وبخاصة فيما لم تُعرف علّته بنصّ صريح، وتبرز قدرات المجتهدين وبراعتهم في استكشاف العلل المناسبة التي ارتبطت بها الأحكام، وعندما لا يتّضح للمجتهد الوصف المناسب لاعتباره علة الحكم يجوز لـه أن يأخذ بالظنّ الراجح الذي لا يوجد مساو لـه ولا أقوى منه، وهذه الساحة المتروكة للعقل البشري عن طريق الاجتهاد تتيح لفكرنا الفقهي أن ينمو ويتّسع، وأن يُلَبِّي حاجات اجتماعية وأن يجسّد قدرة فقهاء الإسلام على تأصيل الأحكام، ومواجهة القضايا المستجدة بعقلية قادرة على الفهم إغناءً لفكرنا، واستجابة لقضايانا، وتأكيداً لاستقلالية هذه الأُمّة، وتمكينا لها من تكوين فكر متميّز، تواجه به التحدّيات التي تستهدف هويتها

ـ(441)ـ

وفكرها وثقافتها وكيانها.

والإسلام يضيق بعقلية الجمود والركود، لأنّ مناهجنا الأصولية فتحت أمامنا أبواب الإضافة، لكي نجسّد قدرة فكرنا على التوسّع والامتداد، والاجتهاد أداة التجديد، والتجديد الذي نريده ليس تجديد التغريب وتجديد الهدم، وإنّما هو تجديد التأصيل والتصحيح، لكي يكون منهجنا امتدادا لمناهج عصر السلف، حيث ازدهرت الحركة الفقهية، وتعدّدت المناهج الاجتهادية وتكاثرت مدارس التفسير، وتنافست في سبيل الدفاع عن حرّية الرأي ومنهجية التفسير والتأويل.

ونظرة سريعة إلى تاريخ فكرنا الإسلامي، ونشأة مدارسنا العلمية في التفسير والفقه، تؤكّد لنا أنّ ذلك العصر كان يمثّل العصر الذهبي في تاريخنا العلمي، وفيه نشأت المدارس وتعددت المذاهب وتنافس العلماء في التأليف والتصنيف وأبدعوا في العلوم والمعارف، وما ضاقت مدرسة بأخرى، وبالرغم ممّا لحق العلماء من محن متلاحقة فقد ظلّت آراؤهم وأفكارهم في موطن الاحتضان والاحترام.

والدعوة إلى الاجتهاد لا تعني الفوضى في إبداء الرأي والعبث بأحكام الشريعة، والتجرّؤ على النصوص بالفهم السقيم، فهذا منكر لا يقال به، ويجب أن تقترن الدعوة إلى الاجتهاد بالدعوة إلى وضع ضوابط دقيقة، تسهم في التخفيف من الآثار السلبية لما يمكن أن تؤدّي إلية حرّية الرأي من أخطار.

 

ضوابط الاجتهاد:

وأهّم هذه الضوابط ما يلي:

أوّلاً: تشجيع الاجتهاد الجماعي الذي يبرز على شكل اجتهادات صادرة من هيئات علميّة مختصّة، تملك ناصية البحث العميق والفهم السديد.

ـ(442)ـ

ثانيا: إخضاع الآراء الاجتهادية لمقاييس علمية، وتشجيع البحوث التي تعلِّق على هذه الاجتهادات، سواء كانت مؤيّدة أو معارضة لإثراء الحوار العلمي بما يبديه العلماء من أفكار.

ثالثاً: اعتبار الهيئات الاجتهادية بعيدة عن التأثيرات الخارجية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، لكي يظلّ الاجتهاد في موطن الثقة والاحترام.

رابعاً: الاهتمام بركن العدالة بمفهومها الأوسع باعتبارها شرطاً أساسياً من شروط الثقة بالمجتهد والاطمئنان إلى رأيه، فمن انعدمت الثقة في اجتهاده لانتفاء صفة العدالة فيه فلا يؤخذ برأيه.

خامساً: اعتماد المنهج العلمي في دراسة القضايا الفقهية التي تحتاج إلى خبرة أهل الاختصاص من أهل العلم والمعرفة، سواء في القضايا الطبيّة أو في المسائل التجارية والمعاملات المادّية.

ولا شكّ أنّنا نحتاج في مثل هذه المواقف إلى تجاوز التعصّب المذهبي، والنظر إلى مختلف الآراء الفقهية بمعيار موضوعي تحكمه الأدلة وتؤكّده، رغبة في الوصول إلى الرأي الأقرب لمقاصد الشريعة وأهدافها في رعاية مصالح الخلق ودرء المفاسد.

والتعصّب ظاهرة سلبية نشأت في عصر الركود الفقهي، ونمت في ظلّ نمو صراعات جِهَوية وقومية وسياسية ومذهبية، وهذه الظاهرة لم تكن مألوفة في عصر السلف ولم تكن مقبولة نظراً لما تمثّله من خطر على وحدة المسلمين ولما تجسّده من رؤية فكرية ضيقة، وأكّد الإمام الغزالي في معرض حديثه عن آداب المناظرة أن يكون المناظرُ طالباً للحقّ، وطالب الحقّ ينشد ضالّته أينما كانت واعتبر من آفات المناظرة الفرح بالإساءة للخصم والاستكبار عن الحق.

وحفل تاريخنا بمناظرات بين علماء السلف وكانت مجالس المناظرة من أروع

ـ(443)ـ

المجالس وأجملها، لأنّها كانت تجسّد أخلاقيّة العلماء وسعيهم للبحث عن الحقّ والصواب، ومازلنا نذكر بإعجاب ذلك التلاقي والتقارب بين المدرستين الفقهيّتين، مدرسة الحديث ومدرسة الرأي وحرص كلّ مدرسة على أن تستفيد من خصوصيّات المدرسة الأُخرى، فمدرسة الحديث استفادت من مناهج علماء الرأي في الأقيسة والعلل، ومدرسة الرأي استفادت من مناهج مدرسة الحديث في الرواية والتأصيل.

 

ظاهرة التعدّدية المنهجية:

والتعدّدية المنهجية ظاهرة حيّة، وهي دليل على قدرة فكرنا على توليد التصورات الاجتهادية القادرة على تكوين المدارس الفكرية، التي أسهمت في إغناء ثقافتنا الإسلامية بعطاء أجيال متعاقبة، جمعتهم رغبة أكيدة في خدمة هذا الفكر.

ومن اليسير علينا أن نلاحظ هذه التعدّدية المنهجية في طريقة التصنيف الأصولي بين طريقة الشافعية التي اعتمدت على وضع القواعد أولا وتطبيق الفروع عليها، والحنفية التي اعتمدت على الفروع كمنهج للتقعيد والتأصيل، ولا بدّ في كلّ تعدّدية من آثار إيجابية تتمثّل في توليد المنهجية الوسطية التي تتلافى الأخطاء الممكنة والمحتملة لكلّ من الطرفين.

والوسطية في جميع الظروف وليدة طرفين متباعدين، وهي نتاج طبيعي لتعدّدية منهجية في طرق البحث والتأصيل، وإنّنا نتطلع الآن إلى وسطية عاقلة يحقّقها الاحتكام إلى النصوص النقلية، وينّميها شعور صادق بحاجة هذه الأُمّة إلى التقارب الفكري، والتساكن النفسي في ظلّ تعدّدية مذهبية، تجسّد انتماء كلّ شعب من شعوبنا إلى محيطه الثقافي والمذهبي والاجتماعي، ولا تنسيه حقيقة انتمائه إلى عقيدة واحدة وثقافة إسلامية متميّزة حدّد القرآن الكريم والسنّة الشريفة معالمها الأساسية.

ـ(444)ـ

ولسنا مطالبين اليوم بأن نبحث عن وحدة مذهبية في الأحكام الفرعية، فذلك ممّا لا يمكن تحقيقه ولا يترتب عليه أيّ أثر ايجابي، لأنّ التعددية مظهر حيّ ودليل على حيوية الجهد الذي يبذله العلماء في التوصل إلى المعرفة، ويجب أن ينصبّ اهتمامنا على استكشاف أوجه التلاقي بين المذاهب الإسلامية، لتعبيد مسالك التقارب وطرق التعاون، لكي يكون جيلنا محصّنا ضدّ الفتنة ومهيّأ لرفض أيّ شعار يمزّق وحدة هذه الأُمّة، وبهذا المنهج التحصيني نضمن أن تظلّ شعوبنا متعاونة ومتكاتفة تؤمن بالتساكن والتعايش، وترفع راية الحوار أداة حضارية لتضييق دائرة الاختلاف.

وإنّنا ندعو إلى تطويق كلّ مظاهر التعصّب المذهبي، وإدانة كلّ شعار يثير الفتنة ويهدّد وحدة هذه الأُمّة، ولا يجوز لنا أن نكون أداة طيعة وغافلة لتنفيذ المخطط الذي يريد أن يراهن على الخلافات المذهبية، فأوجه التلاقي أكثر وأعمق، وما يوحدنا أكثر مما يفرقنا، وما يدفعنا إلى التضامن والتكافل والتعاهد أرسخ وأقوى ممّا يدفعنا إلى التباعد والتنافر، ويجب على علماء هذه الأُمّة – وهم أهل الحكمة والرأي والاختيار – أن يفسدوا مخطّط التمزيق والتفريق، وأن يكونوا في مقدمة الموكب الذي يدعو إلى الوحدة، وأن يتصدّوا بشجاعة وجرأة لصيحات التطرّف وشعارات الانفعال، فالتاريخ سجل خالد، وحكماء الأُمّة هم الأجدر بأن يملؤوا صفحاته بمواقف جهاد في سبيل تصحيح العلاقات، وعقلنه الانفعالات والسيطرة على مسارات أمتنا، في رحلتها الشاقّة للبحث عن هويتها وذاتيتها والتمسّك بعقيدتها وثقافتها.

ولا يجوز أن نسمح للتاريخ بأن يحكم قبضته على عواطفنا، فتاريخنا هو تاريخ بشري، وبعض صفحاته مشرق وبعضها الآخر قاتم، فما كان مشرقا فيجب أن نعتزّ به، وأن يكون مصدر إلهام لنا، وما كان قاتما فيجب أن ندينه وأن نأخذ منه العبرة، لكي لا تتكرّر الأخطاء، والغاية من التاريخ، كما يقول ابن خلدون في مقدمة مقدمته: «أن تتمّ

ـ(445)ـ

فائدة الاقتداء، لأنّه يطلعنا على أحوال الماضين، من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، ويخضع التاريخ لأصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني»(1).

وفي معرض حديثه عن أثر التطرّف في رواية التاريخ أكّد ابن خلدون «إنّ النفس البشرية إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقّه من التمحيص والنظر حتّى تتبيّن صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيّع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار»(2).

ونحن نحتاج إلى تلك الرؤية الموضوعيّة لتاريخنا، وسوف نجد الكثير من المواقف التي تدفعنا إلى الاعتدال وتشجّعنا على إدانة التطرّف المذهبي، وتشجيع كلّ دعوة إلى التقارب والتناصر، وإلى نبذ كلّ خلاف يؤدّي إلى تعميق التعصّب وتغذيته.

 

أهمّ المبادئ والأسس في الفكر الإسلامي:

وهناك مبادئ وأسس يجب أن نعتبرها من الثوابت الراسخة والمفيدة في فكرنا الإسلامي وأهمّها ما يلي:

أّلاً: اعتبار الإنسان هو المحور الذي حرصت الشريعة على توفير أسباب الكرامة لـه في حقوقه الإنسانية وفي مطالبه الاجتماعية، والإنسان هو المؤتمن على هذه الأرض، يعمّرها بجهده، ويشيّد بناءها بعمله، ويسخّر الطبيعة لخدمته.

ثانياً: الثقة بالعقل البشري، كمخاطب مكلّف بالفهم والتفسير والتأويل، ولا حدود لثقة الإسلام بقدرات العقل، وضمنت الشريعة للعقول البشرية حقوقها في اختيار وسائلها في المعرفة، والتمست لها العذر فيما تقع فيما تقع فيه من أخطاء في التفسير والفهم والاجتهاد ما دامت ملتزمة بضوابط الفهم وقواعد الاستدلال.

_______________________________________

1 ـ المقدمة: 13.

2 ـ المقدمة: 46.

ـ(446)ـ

ثالثاً: اعتبار الاجتهاد من الحقوق الإنسانية التي يملكها من توفرت فيه شروط الكفاءة والعدالة، ومجالات الاجتهاد واسعة في جميع المسائل الاجتهادية، ولا اجتهاد فيما علم من الدين بالضرورة أو ما ثبت فيه وجه الحقّ ثبوتا قطعيا، لأنّ الحقّ لا يتعدّد فيها.

رابعاً: الاعتراف بأثر البيئة الزمانية والمكانية في تكوين ظروف نفسية تهيّئ المجتهد لاختيار منهجيّة ملائمة لـه، ولا ينكر مبدأ تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان، لأنّ الأحكام لها غايات وأهداف، وتتمثّل في جلب المصالح ودرء المفاسد؛ فالمصالح مطلوبة والمفاسد مدفوعة، وغاية الحكم الشرعي أن يحقق هذه المقاصد، وتتميّز المصادر النقلية بخصوصية التفسير والتأويل، وهذه الخصوصية أدّت إلى تعدّد الآراء والاجتهادات، تيسّرا على الأُمّة وإغناء لتراثنا.

وفي الختام أودّ أن أؤكّد مكانة الإنسان في فكرنا الإسلامي، وما يختزنه في كيانه من طاقات وإمكانات، والإنسان هو المحور الذي جاءت الشريعة لتكريمه أوّلا، ولتوفير أسباب الحياة لـه ثانيا، ويجب أن يحظى ذلك الإنسان بمكانته، وأن توجّه العناية لإسعاده وتوفير أسباب العيش لـه لكي يشعر بوجوده الإنساني، ولا كرامة لمستذل أو جائع، ولا يمكن أن يُطالب الجائع والمستذل بأيّ التزام ما لم تُوفَّر لـه أسباب الكرامة.

وشعوبنا الإسلامية تحتاج أولا إلى كرامة الكفاية وتحتاج ثانيا إلى كرامة العدل، لكي تشعر بوجودها وبإنسانيتها، وعندئذ ستكون هذه الشعوب هي السفينة التي ستبحر في أعماق المحيطات، صامدة شامخة راسخة الجذور عالية الرايات، باحثة عن مجد عريق وتاريخ مجيد.

وعنذئذ سنفتح سجلاّ جديدا ندوّن فيه صفحات ازدهار وعطاء، مؤكّدين بذلك عظمة هذه الأُمّة ووعيها لحاضرها ومستقبلها وأهليّتها لحمل الراية بكفاء وجدارة.