السنّة بين التقييم والتحديد عند المذاهب
السنّة بين التقييم والتحديد عند المذاهب
السيد مجتبى الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
من الألفاظ التي يستعيذ بها جميع الشعوب الإسلاميّة بمختلف آرائها، ويحاول أن ينتمي إليها هي: لفظة «السنّة» المقدّسة، وقد أذعنت بها حتّى عُدّت جزءاً بل أصلاً للإسلام لا يمكن الفصل بينهما.
وقد حفلت بتقديسها وتبجيلها آلاف من الأحاديث المودعة في موسوعات الفرق الإسلاميّة، كما حضّت على الأخذ بالسنّة وحذّرت عن مغبة الابتعاد عنها، ونحن إنّما نقتصر هنا بذكر نموذج من تلك الآلاف:
جاء في بيان أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبته المعروفة بالديباج ما نصّه: «نعم اقتدوا بهدى نبيّكم فإنّه أفضل الهدى، واستنّوا بسنّته فإنّها أهدى السنن...»(1).
وروى المفيد في المجالس عن منصور بن يحيى عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «صعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المنبر فتغيّرت وجنتاه والتمع لونه ثمّ أقبل بوجهه فقال: يا معشر المسلمين إنّما بعثت أنا والساعة كهاتين، قال ثمّ ضمّ
_______________________________________
1 ـ نهج البلاغة: 163، تحقيق صبحي الصالح، خطبة 110.
ـ(472)ـ
السبّاحتين، ثمّ قال: يا معشر المسلمين إنّ أفضل الهدى هدى محمّد وخير الحديث كتاب الله، وشرّ الأمور محدثاتها؛ ألا وكلّ بدعة ضلالة ألا وكلّ ضلالة ففي النار»(1).
وهكذا يروي الهندي بإسناده عن سليم بن قيس أنّه سأل ابن الكوا عليّاً عن السنّة والبدعة وعن الجماعة والفرقة فقال: يا بن الكوا حفظت المسألة فافهم الجواب: السنّة – والله – سنّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم والبدعة ما فارقها، والجماعة – والله – مجامعة أهل الحق وإن قلّوا والفرقة مجامعة أهل الباطل وإن كثروا(2).
وذكر المجلسي هذا الحديث بنفس العبارة بإسناده (3).
فنستشف بكلّ جلاء أنّ السنّة منتمى كلّ المسلمين، والبدعة وهي مفارقة السنّة؛ فلا مجال للكلام حول حجّية السنّة وقيمتها عند المسلمين، وإنّما نتكلّم بالذات حول إطار السنّة وطرق إثباتها، أي بماذا تثبت السنّة وما هي حدودها الشاملة.
ومن الطبيعي أنّ نبدأ في دراستنا لتحديد المفهوم اللغوي والاصطلاحي للسنّة، ثمّ الاطلاع على آراء مذاهب المسلمين حولها:
في مجال اللغة: للسنّة معانٍ أو بالضبط موارد كثيرة للاستعمال تناسب بعضها مع بعض، وتلتقي في أصل واحد بعد الدقّة وعملية الاستكشاف، والموارد التي تناسب دراستنا هذه هي الموارد التالية:
قال ابن منظور: «...والسنّة السيرة حسنة كانت أو قبيحة».
ويقول في موضع آخر: «السنّة في الأصل سنّة الطريق، وهو طريق سنّه أوائل الناس فصار مسلكاً لمن بعدهم»(4).
ويقول الجوهري ما نصّه: «السنن الطريقة، يقال: استقام فلان على سنن واحد...
_______________________________________
1 ـ بحار الأنوار 2: 163.
2 ـ كنز العمال 1: 378، حديث 1644.
3 ـ راجع بحار الأنوار 2: 166، حديث 22.
4 ـ لسان العرب 13، مادة سنن.
ـ(473)ـ
السنّة: السيرة... والمسنون المصور...».
وحينما حاول سيف الدين الآمدي أن يشرح لفظ السنّة بيّنه هكذا:
«الأصل الثاني في السنّة وهي في اللغة عبارة عن الطريق، فسنّة كلّ أحد ما عهدت منه المحافظة عليه والإكثار منه، كان ذلك في الأُمور الحميدة أو غيرها»(1).
ومن الواضح في السنّة بمفهومها اللغوي ليست محطّاً لنظر الإسلام في تقديسه وتبجيله، إذ إنّ السنّة المعنيّة في الإسلام هي السنّة التي تستند إلى الشرع المبين، فإنّ سنن كثير من الشعوب قد تكون مقاطبة ومضادّة للإسلام، فينطبق عليها مفهوم البدعة فتقع في جنب سنن قوم لوط وسائر الأُمم المغضوب عليها.
فعلينا أن نركّز في مقالتنا هذه المعنى المقصود بين المسلمين، وهو المعنى المصطلح عندهم، وقد فسّروا السنّة في مفهومها المصطلح بعبارات متقاربة تلتقي في مفهوم واحد، وكلٌّ قد سلّط الضوء على جانب؛ فنرى الآمدي يبيّنها هكذا:
«إما في الشرع فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد تطلق على ما صدر عن الرسول من الأدلّة الشرعية ممّا ليس بمتلو ولا هو معجز، ولا داخل في معجز، وهذا النوع هو المقصود بالبيان هنا، ويدخل في ذلك أقوال النبيّ وأفعاله وتقاريره...»(2).
وعرّف الجرجاني السنّة المصطلحة بما نصّه: «وفي الشريعة هي الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب؛ فالسنّة ما واظب النبيّ عليها مع الترك أحياناً..
وقالوا: السنّة تطلق في الأكثر على ما أضيف إلى النبيّ من قول أو فعل أو تقرير»(3).
وقال الشاطبي إضافة لمفهوم السنّة المصطلح: «وتطلق في عرف الفقهاء على ما
_______________________________________
1 ـ الأحكام 1: 155.
2 ـ الأحكام 1: 155، 156.
3 ـ أضواء على السنّة المحمدية، محمود أبو رية 1: 38، 39.
ـ(474)ـ
يقابل البدعة، ويراد بها كلّ حكم يستند إلى أصول الشريعة في مقابل البدعة؛ فإنّها تطلق على ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنّة، ربما استعملها الكلاميون بهذا الاصطلاح، كما تطلق في اصطلاح آخر لهم على ما يرجّح جانب وجوده على جانب عدمه، ترجيحاً ليس معه المنع من النقيض»(1).
وقال العسكري في معالمه: «السنّة في الشرع الإسلامي يراد به ما أمر به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ونهى عنه وندب إليه، قولاً وفعلاً ممّا لم ينطق به الكتاب العزيز، ويشمل تقرير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو: أن يرى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عملاً من مسلم ولا ينهاه عن ذلك...»(2).
وفي ضوء التطلّع الفاحص في موارد السنّة المصطلح يمكن أن نستخلص لها ثلاثة مجالات: الأول في علم الكلام، والثاني في أصول الفقه، والثالث في الفقه.
السنّة في علم الكلام:
وحيثما تطلق السنّة في علم الكلام ومجالاته تقابل البدعة؛ فالسنّة هي ما تمتد جذورها من الشريعة الإسلاميّة الغرّاء، والبدعة هي المخترعات والأُمور الناتجة عن الآراء المزيّفة والأغراض المشؤومة ممّا قد دسّ في الشريعة وينسب إليها ظلماً وزوراً، سواء ما صدر من الجهات الشخصية أو المذاهب البشرية والأحزاب السياسية.
إنّ عملية الإبداع في الدين عملية قد أدانها المسلمون بأجمعهم، وكذلك الأحاديث المروية عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته وأصحابه قد أعلنت بأعلى صوتها رفضها لكلّ بدعة مخترعة، وقد مرّ علينا في مطلع الكلام بعضها، ونضيف إليه قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إيّاك أن تسنّ سنّة بدعة؛ فإنّ العبد إذا سنّ سنّة سيئة لحقه وزرها ووزر
_______________________________________
1 ـ إرشاد الفحول: 2.
2 ـ معالم المدرستين 2: 16.
ـ(475)ـ
من عمل بها»(1)، «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم»(2) وروى ابن ماجه بإسناده عن عمرو المزني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من أحيا سنّة من سنّتي فعمل بها الناس كان لـه أجر من عمل بها لا ينقص الله من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فُعمِل بها كان عليه أوزار من عمل بها...».
وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من عمل في بدعة خلاّه الشيطان والعبادة وألقى عليه الخشوع والبكاء».
وقد حرّض صلّى الله عليه وآله وسلّم على مقاومة أهل البدع، حيث قال: «من أعرض عن صاحب بدعة بغضاً لـه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً»(3) وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مَنْ تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه»(4).
ونستخلص في ضوء ما بيّناه: إن السنّة المرغوب فيها هي سنّة الرسول أو بالأعم سنّة الإسلام، والبدعة المرغوب عنها هي المخترعات المنسوبة إلى الإسلام بلا أصل وصدق؛ فلا بدّ لتحقق عنوان البدعة من توفّر شرطين:
أحدهما: كون العمل مخترعاً ومبتدعاً.
والآخر: نسبة ذلك الأمر إلى الشرع، وإتيانه كعمل شرعي وسُنّة إسلامية.
وما يأتي بغير الانتماء إلى الشرع لا يفيء إلى البدعة بل لـه حكمه، فإن كان ممّا قد نهى الشارع عن إتيانه فهو عمل حرام يعتبر فاعله فاسقاً إذا أصرّ عليه ولا يحتسب مبتدعاً؛ فالمغمورون في المحرمات كشرب الخمور والكحول والذين يستمعون إلى الأُغنية المطربة والمعازف وأصحاب المجون والطرب لم يعدّوا من المبتدعين في الدين، ولكن من ارتكب عملاً متّسماً بوسمة الدين والشرع ولو لم يكن في الأصل محرّماًَ فهو من أهل البدعة
_______________________________________
1 ـ بحار الأنوار 77: 104.
2 ـ كنز العمال 1، مختار رقم: 1112.
3 ـ كنز العمال، مختار رقم 5599.
4 ـ سفينة البحار 1: 63.
ـ(476)ـ
والضلالة ويعتبر منحرفاً عن الدين.
وهذه النقطة هي التي ترسم لنا المفهوم بالضبط، ولا بدّ أنّ نركّز عليها في تحديد مفهوم السنّة والبدعة في الدين؛ كي لا نقع في الخطأ عند مواجهة العادات الاجتماعية والشعبية وتمييز البدعة منهما.
ولتسليط مزيد من الضوء على الموضوع أعطيكم مثالاً آخر: من يتصحّر في كلّ يوم صباحاً لشمّ الهواء أو للرياضة الخفيفة، ويختار لذلك مصيفاً أو متنزّهاً ويصلّي الفجر هناك، حتّى صارت هذه العملية عادة مستمرّة لـه، لا مجال لأن نرميه بالبدعة ونقول لـه: إنّك ابتدعت في الدين إذ تصلّي الصبح في الصحراء أو المتنزّه.
ولكن هذا الشخص لو صلّى الفجر في الصحراء كعمل مستحب شرعي ندب إليه الشارع – كما يستنّ ذلك في صلاة العيدين مثلاً – فهو مبتدع قد أحدث في الدين ما لم يكن منه، وذلك الشخص إن التزم كلّ يوم بالقمار للتسلّي ارتكب الحرام ولكنّه ليس بمبتدع، غير أنّه إنّ مارس لعباً خاصّاً كعمل رسميّ مستحب فهو مبتدع بلا غرو.
وحينما نخطو خطوات في أوساط المسلمين نرى هناك عادات ورسوماً يلتزم بها بعض الشعوب المسلمة؛ فعلينا أنّ نقوّمها بنفس الميزان، فما كان منها مستمدّاً من غير الكتاب والسنّة ولكن يؤتى كعمل ديني إسلامي فعلينا أنّ نكافحه بصفته بدعة محرّمة، وما كان غير مستمد من الكتاب والسنّة ولكن لا يؤتى كعمل ديني، بل يؤدّى كعادة شعبية ورسم قطري فلا ينبغي أنّ نوسمه بالبدعة.
وهناك مورد آخر لأخذ مفهوم البدعة في غير موردها، وهو: فيما إذا كانت الكبرى مأخوذة عن الشرع، والتطبيق عادة من الشعب كأسلوب من أساليب تطبيق تلك الكبرى. وأعطيك مثالاً لذلك: في هندسة المساجد لم يندب الشرع إلى شيء خاص غير المئذنة، ولكن خلقت الظروف الإقليمية والاقتصادية والاجتماعية أساليب خاصة
ـ(477)ـ
لهندسة المساجد، بحيث يمكن أن نميّز الشعوب الإسلاميّة ونصنّفها بحسب هندستهم لعمارة مساجدهم، من ناحية السقف والتطريزات وأسلوب تأسيس دورات المياه وسائر المرافق حولها وغير ذلك.
ويجري هذا المثال في كثير من العادات والرسوم المتداولة بين المسلمين على إقامة الشعائر الدينية، ولكن عدم الوعي الكامل واستيعابها مفهوماً سبّب مشاكل عريقة في الأوساط الإسلاميّة، وصار منطلقاً لكثير من الاشتباكات والحروب والقتال بين المسلمين، واستغلّ العدو الفرصة للهجمة على المسلمين بواسطة أياديهم المخبوءة تحت شعار الإسلام، ممّا قد أدّى إلى شبّ نار الحرب والعدوان، وأخيراً تمزيق المسلمين بعضهم بعضاً، وطالما شاهدنا لها نماذج بين آونة وأخرى في كلّ صقع وناحية.
وإذا أمعنّا النظر فسوف نرى أيدي الاستكبار العالمي اللئيمة وراء الاشتباكات الواقعة في الباكستان، كما كانت وراء ما وقع في الحرمين الشريفين على أيدي الوهابيين من القتل والتشريد.
الاحتفال بمولد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم:
من مصاديق المسألة المدروسة هنا هي مسألة الاحتفال بمولد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث كانت من سالف الزمن عادة جارية بين المسلمين، وقد قاومها شذاذ منهم زعماً أنّها بدعة في الدين لم تكن في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ونحن هنا ندافع عن هذه العادة الحسنة بالبيان الآتي في ضوء ما بيّناه حول البدع والسنة، فنقول: ممّا لا شكّ فيه أنّ الإسلام قد ندب الإنسانية جميعاً إلى إظهار الحبّ والمودّة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كخادم للبشرية، شكراً لما قد أعطى من الهداية والبركة، ولسؤال الرسول أمّته المودّة لذوي قرباه (1) يثبت وجوب
_______________________________________
1 ـ ﴿... قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى...﴾ سورة الشورى: 23.
ـ(478)ـ
المودّة لـه بالفحوى، ومن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، وهكذا قد أوجب الله علينا الصلاة على نبيّنا في كلّ يوم وليلة في صلواتنا للفرائض والنوافل، ولو لم تكن هذه النصوص والمؤشرات الكثيرة لإثبات وجوب المودّة والحب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لكفانا حكم العقل بذلك، وهكذا يجب علينا إحياء ذكراه في أوساطنا وقلوبنا وقلوب أبنائنا، ثمّ نتطلّع إلى الاحتفال بمولده صلّى الله عليه وآله وسلّم ونقول: إنّ الاحتفال هو مصداق لإظهار المحبّة وتطبيق للكبرى التي توجب علينا إحياء ذكره وإظهار حبّه وودّه، مثلما يبارك كلّ إنسان ذكرى النعم الواردة عليه من ولادة مولود ونيل حرية واستقلال أو تأسيس حكومة أو...
وليس من المسلمين مَنْ ينسب الأسلوب الخاص لإقامة الاحتفال إلى الشرع؛ بأن يقول: إنّ أكل حلوى معينة أو إنشاد شعر وأغنية ما أو تزيين شارعٍ أو مسجدٍ ما هو من سنّة الرسول أو من الدين كي نقول: إنّه ابتدع واخترع ما ليس من الدين ونسبه إليه.
نعم على جميع المسلمين أن يختاروا أساليب سائغة لتطبيق الكبريات الدينية، فمن يريد الاحتفال بمولد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإظهار الفرح والسرور بهذه النعمة العظيمة فلا ينبغي لـه أنّ يرتكب المحرّمات، من الرقص والأغاني المطربة والمجون، ولا يجوز اختلاط الرجال بالنساء وغير ذلك، لأنّ هذه الأُمور – ولو لم تعتبر بدعة في الدين حيث إنّ المرتكب لها لم ينسبها إلى الدين – محرّمات لا يجوز ارتكابها خصوصاً عند إرادة إطاعة الربّ جلّ وعلا(1).
ومن هذا الباب الصلاة على النبيّ بعد ذكره في الشهادة الثانية في الأذان، فإنّها ليست من الأذان ولا يجوز أنّ يؤتى بها كجزء من الأذان، ولكن تلبية لكثير من الروايات الواردة حول الصلاة على النبيّ عند ذكر اسمه الشريف ولها إطلاق يشمل الأذان وغيره، قد نصلّي عليه في الأذان أيضاً كما قد نقول بعد تكبير الأذان: «جلّ جلاله وتمّ نواله» وكلّ
_______________________________________
1 ـ قد ألفت في هذا الموضوع كتب وكراسات كثيرة مستدلة بالروايات والآيات.
ـ(479)ـ
ذلك سائغ في الشرع ومندوب إليه، كمصداق لتعظيم ربّنا ونبيّنا لا كجزء من فصول الأذان والإقامة.
وأودّ أنّ أشير إلى نقطة قد أثارت في ذهن بعض المسلمين شبهة على إخوانهم الشيعة، حيث إنّهم قد يضيفون في الأذان شهادة ثالثة وهي قولهم: «أشهد أنّ علياً وليّ الله»، ولكن لا بدّ أنّ نعرف أنّه لم يوجد في فقهاء الشيعة الإمامية فقيه يفتي بجزئيّة الشهادة الثالثة في الأذان بل كلّهم يقولون ليس في الآذان إلاّ شهادة التوحيد والرسالة، وكذا يفتون بأنّ من أتى بالشهادة الثالثة كجزء من الأذان فقد ارتكب محرّماً، حيث أضاف إلى الأذان ما ليس منه، ولكن من أتى بها تبركاً وتيمناً في ضمن الأذان فلا بأس به، كما أنّه لا بأس بالصلاة على النبيّ بعد الشهادة الثانية تبرّكاً وتيمّناً لا كجزء من الأذان؛ ولذا كثير منهم لا يذكرون الشهادة الثالثة أو يتفّننون في التعبير كي لا تقع موقع الجزئية. وهنا نرى أنّ جرّاء عدم الدقّة في مفهوم البدعة وقعت حادثة مؤلمة مدهشة لمحبّ مخلص للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في نجد حيث صلّى المؤذّن على الرسول بعد الشهادة الثانية فنهاه محمّد بن عبدالوهاب، وبعد ما شاهد منه العودة إلى الصلاة على النبيّ في اليوم التالي أراق دمه جزاءً لحبّه وعشقه لنبيّه معتذراً بأنّه مبتدع! وهذه الفاجعة تعتبر طليعة للمجازر الواقعة في الحرمين الشريفين وكربلاء وغيرها من البلاد، بواسطة الفرقة المنتمية إلى هذا الشخص الذي سوّد وجه البشرية.
البراءة من المشركين في موسم الحج:
إنّ الإمام الخميني العظيم ذاك المجدّد البطل الفقيه العالم لمّا أعلن لزوم إقامة البراءة في موسم الحج، اتخذ الاستكبار العالمي موقفاً مضادّاً لـه، ولكن لمّا وجدوا الموضوع يتّصل بأمر عبادي إسلامي صلة وثيقة تخرجه عن إطار السياسة بمفهومها الضيّق عندهم عالجوا
ـ(480)ـ
المشكلة باتّخاذ شعار ديني مضادّ لـه، وعملوا من مفهوم البدعة حربة في تعاملهم، واستغلّوا لذلك بعض العلماء المرتزقة والأقلام العميلة، وأحياناً العقول البسيطة والأفهام الساذجة، فخطبوا ما خطبوا وكتبوا ما كتبوا، والجهات السياسية الخادمة لهم قد دعمت الدعايات بكلّ وسائل إعلامها: من المنابر والجرائد والأجهزة الإذاعية حتّى ملؤوا الجوّ ضدّ ذاك الإعلان المقدّس طعناً وردّاً وتشويهاً، ورموه بأنّه بدعة في مناسك الحج وانحراف عن الدين لايتلاءم إلاّ مع مذهب الخميني، ولا غرو من ذلك كلّه حينما نقارنه مع ما نشاهد من انهيار الاستكبار في أوساط المسلمين، ببركة الثورة الإسلاميّة المقدّسة والصحوة العالمية المستمدة من نداء ذاك الإمام، الذي هزّ الغرب وحيّر الشرق وأحيا السنّة وأمات البدعة.
نعم من الواضح أنّ الإمام الخميني لم يعلن المسيرة أو التظاهرات أو كتابة اللافتات أو أيّ شيء من هذا القبيل كأحد مناسك الحج المحددة بعناوينها، بل أعلن عدم انفصال الحجّ بل التوحيد عن البراءة من المشركين ورفضهم قولاً وعملاً، وركّز على تحقيق هذا الشعار السامي في الحج، وأمّا إقامة المسيرات والتظاهرات ورفع الصوت بالشعارات المناسبة فإنّما هي أساليب متّخذة لتلك الكبرى، التي لا مجال لأيّ مسلم أنّ ينكرها إلاّ مكابر ينكر الشمس في وضح النهار، فإنّ جميع العبادات الإسلاميّة هاتفة بنفي الشرك بأساليب شتّى، ويتضح ذلك بمراجعة ما تضمّنته الأدعية الواردة في الحجّ وغيرها، وهي شعارات يعلنها المسلمون كما أنّ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم استغلّ فرصة الحجّ لإعلان البراءة وقراءة الآيات التي ترسم موقف الإسلام تجاه المشركين.
ويستشفّ ذلك بكلّ وضوح حينما نراجع مناسك الحج للإمام الخميني فإنّا نرى أنّه قدّس سرّه قد عدّ مناسك الحج طبقاً لما رسمه سائر الفقهاء حرفاً بحرف، فحينما يركّز على إقامة المسيرة أو المؤتمرات في الحج للبراءة من المشركين فما أراد من ذلك إلاّ تطبيق كلمة «لا إله
ـ(481)ـ
إلاّ الله» في الحج بهذا الأسلوب الذي تتطلّبه الظروف السائدة هناك، وهو أسلوب مناسب مؤثّر لإعلان المواقف السياسية والدينية في العالم؛ وهنا نستمد من ترجمة نصّ كلامه إيضاحاً أكثر: قال قدس سره في بيانه إلى حجاج بيت الله الحرام:
«إن البراءة من المشركين إحدى أُسس التوحيد وواجب سياسي في الحج، فلا بدّ أن تقام في الموسم ضمن إقامة التظاهرات والمسيرات مع كلّ صلابة وجلال».
وهكذا تابع قوله عند محاولة التركيز على إقامة البراءة في الموسم، كمصداق لتحقيق كلمة التوحيد فقال:
«حاشا أن يتحقّق خالص عشق الموحّدين إلاّ بمظهرٍ كامل للبراءة من المشركين والمنافقين في القول والعمل، ومن كلّ دناءة وتعدٍّ وظلم واستغلال واسترقاق للشعوب؛ وأيّ بيت أحقّ من الكعبة (بيت الأمن والطهارة) في أنّ يتوجّه إليه الناس ويجدّدوا الميثاق ﴿... ألستُ بِربِّكُم...﴾ (1) ليحطّموا الأصنام والأرباب المتفرقين، ويُحيوا ذكرى أهمّ وأكبر حركة سياسية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(2) حيث إنّ سنّة نبينا في إعلان البراءة لا تُنسى ولا تندثر.
ولا يقتصر إعلان البراءة على موسم الحج فحسب، بل على المسلمين أن يملؤوا جميع أنحاء العالم محبةً وعشقاً للذات الإلهية، ونفوراً وحقداً عمليّاً لأعداء الله...»(3).
نعم في مسألة البراءة قبل ان يكون دافع المقاومين ضدّها شبهة شرعية يكون دافعهم مواقف سياسية لا يمكنهم التصريح بها، حيث يواجهون استنكار شعوب المسلمين الغيارى، فالتجؤوا إلى ملجأ أمين يستر واقعهم، فأخذوا عنوان البراءة آلة لإدانة مراسم البراءة عن المشركين في الحج.
_______________________________________
1 ـ سورة الأعراف: 172.
2 ـ سورة التوبة: 3.
3 ـ من بيان للإمام الخميني قدّس سره لحجاج بيت الله الحرام في ذي الحجة سنة 1407.
ـ(482)ـ
إقامة المآتم في ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام:
ومما قد تثير شبهات في كونه بدعة في الدين أو لا هي: المراسم التي يقيمها الشيعة في بلادهم لذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، ويتخذون هناك أساليب خاصّة في إقامة المآتم من إنشاد الشعر والخطابة وإجراء المسيرات واللطم على الصدور والرؤوس – وأحياناً – استخدام السلاسل المخصّصة بتلك المراسم، ممّا نشاهده في بلاد الشيعة ومجامعهم، وبخاصّة في العشرة الأوائل من محرّم وهي ذكرى استشهاد الحسين عليه السلام، والشبهات المطروحة حول هذه المراسم من جهات عدّة لا مجال للخوض فيها وتقييمها واستخلاصها.
منها: أنّ البكاء على الميت منهيّ عنه تنزيهاً أو تحريماً، وقد أُجيب عن ذلك بما ورد في جواز البكاء على الميت، وإنّ البكاء على الحسين أو على أيّ شخص من أولياء الله ليس كالبكاء على سائر الأموات، حيث إنّ البكاء على أولياء الله يكون بدافع حبّ الله والبكاء على سائر الأموات دافعه الغريزة، ولذا تفيد نصوص كثيرة ندب الشارع إلى البكاء على الحسين عليه السلام وعلى الحمزة سيّد الشهداء، وقد توسّع في الكلام بعض العلماء في ذلك، فعلى الطالب المراجعة إلى مظانّه(1).
ولكن الشبهة التي نتناولها هنا هي القائمة: بأنّ إقامة هذه المراسم لم تكن في الدين، فإنشاؤها بدعة مخترعة لا يجوز اقترافها، وفي ضوء ما حدّدناه في مفهوم السنّة والبدعة يتضح لنا الأمر، حيث إنّ إظهار الحب لأهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا ندب إليه الشارع فقال جلّ وعلا:
_______________________________________
1 ـ منها كتاب مجالس الشيعة في المناقب والمآتم للسيد محسن الأمين العاملي.
ـ(483)ـ
﴿... قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى... ﴾(1).
وهكذا ينبغي أن يطالع كلّ مسلم حياة أهل البيت وأصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويعتبر منها، ومن الطبيعي أن يفرح بالمواقف المفرحة، كما أنّه يحزن وأحياناً يبكي حين يمرّ على ما أصابهم من الظلم والدمار وما عانوه من أعدائهم، وهذا شيء يلائم النفوس المنفتحة والمتعاطفة مع ما يردها عند ذكر الأحداث الواقعة طيلة التاريخ؛ وأخصّ ذكرى استشهاد الحسين عليه السلام ضحيّة الإسلام والإنسانية الذي أحيا بدمه المقدّس الإسلام وصانه من الانحراف والانهيار كما روي عنه أنّه قال:
«لو كان دين محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يستقم إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني».
ومضافاً إلى الأدلة العقلية والنقلية العامّة على مطلوبية مراجعة حياة الأبطال والتأثر المناسب من تلك المواقف، قد روي عن طرق الشيعة والسنّة ما بلغ حدّ الاستفاضة لولا التواتر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قد نبّأ عن استشهاد حفيده الحسين، وذكر مقتله وبكى من حوله من أهل البيت والأصحاب، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هو القدوة العليا لكلّ المسلمين.
فمسألة إحياء ذكرى مقتل الحسين وبطولاته ومواقفه الحماسية والبكاء عليه ممّا لا يعتري سنده شكّ على المراجع الفاحص عن أدلّتها، وإنّما الكلام في الأساليب الدارجة في أوساط الشيعة من إقامة العزاء على مقتله عليه السلام هل هي بدع مخترعة منتسبة كذباً وزوراً إلى الدين، أو هي أساليب دارجة اتخذها المسلمون لتطبيق تلك الكبرى حسب العادات والأذواق وتختلف في كلّ قطر وصقع كما تتطوّر جيلاً بعد جيل؛ فليس أحد من الشيعة يقول إنّ اللطم أو إنشاد أناشيد وأشعار معيّنة أو إنّ أسلوباً خاصّاً من أساليب مراسم العزاء وإقامة المآتم هي بعناوينها سنن إسلامية، بل كلّهم يعترفون بأنّ ذلك كلّه
_______________________________________
1 ـ سورة الشورى: 23.
ـ(484)ـ
من الأساليب المستعملة لإظهار الحبّ والمودّة لهم والحزن والغمّ والبكاء على مصابهم.
كما أنّ المهتمّين بأمر التثقيف والتربية الإسلاميّة يستعملون أساليّ مختلفة لتثقيف الشباب في إلقاء الخطب وعرض المسرحيات وإنتاج الأفلام والروايات حسب متطلّبات الأجيال ومجامع المسلمين، ولا تعتبر تلك بدعاً مخترعة من أصحابها، حيث إنّهم يقولون: إنّ تثقيف الشعوب ونقل الأخبار والتاريخ وإحياء ذكرى حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه ممّا يجب علينا تطبيقه بأيّ وسيلة ممكنة، والساحة مفتوحة أمامنا إلاّ فيما وُجد نصّ على حرمته، فلا يجوز استعماله في تطبيق الكبريات الدينية والسنن الشرعية.
رؤية المذاهب وخلافاتها:
بعدما اتضحت لنا السنّة والبدعة ومجالهما حان لنا أنّ نُشير إلى نقطة أُخرى مهمّة وهي: رؤية المذاهب حسب اجتهاداتهم ومبادئهم، فهي قد توجب أن يرى مذهب عملاً من السنّة بينما تراه المذاهب الأخرى خارجاً عنها، بمعنى أنّ دليل نسبة عمل معيّن إلى الشرع والدين تامّ عند بعض بينما لا يقتنع الآخرون بتلك الأدلّة، وهذا الاختلاف قد يوجد في مستوى مذهب واحد أيضاً بين علمائه ومجتهديه، كما نشاهد الخلافات الكثيرة في ذكر فتاوى الإمام أبي حنيفة بين الأحناف، أو في فتاوى الإمام الشافعي بين الشوافع أنفسهم؛ فهل يجوز لغير المقتنع بكون فتوى معينة من الشرع أن ينسب إلى المفتي ومقلديه أنّهم من أهل البدعة، حيث إنّه يرى ذلك المفتي ومقلديه قد نسبوا إلى الشرع المقدّس ما ليس منه ؟!
انعدام الحلّ المناسب لهذه الشبهة أيضاً سبّب أحداثاً كثيرة واشتباكات دامية بين أبناء المذاهب الإسلاميّة، ممّا قد سوّد وجه التاريخ وترك آثاراً سلبية في مجتمعات
ـ(485)ـ
المسلمين، قد لا تنسى عواقبها ولا نريد إزعاج القارئين بتحديد ذكرها، ولم تقع تلك الأحداث إلاّ عند سيادة العصبيّات العمياء وعدم التدبر في رؤية الشريعة السهلة السمحاء، فظهر صوت ينادي: للعلماء الذين بذلوا جهودهم العلمية في استكشاف الحقائق أجران وللمخطئ منهم أجر واحد، أي أنّ المخطئ ليس بآثم، مع أنّ المبتدع مرتكب لجريمة عظيمة والشريعة أمرتنا باتخاذ موقف حازم تجاهه ومواجهته بوجه مكفهرّ، وتوعّد بالعذاب الأليم في الآخرة.
إنّ مبدأ تحريم البدعة ورفضها مبدأ يرسّخ أعمدة الإسلام ويمنع عن التفرّق والتشعّب ويأمر بأخذ العروة الوثقى والالتفاف حولها، فهي ضدّ كلّ تفرقة وتشتّت، بينما الرؤية الجافة – التي لا تتحمّل الاجتهادات والاستنباطات المختلفة ولا يمكن لأيّ مجتمع الانضواء تحتها – توجب الخلاف الدائم والبغضاء والشحناء والحروب الدامية بين المسلمين وتمزيق بعضهم بعضاً.
فعلينا أن نميّز بين من أدّى اجتهاده إلى حكم – سواء كان مجتهداً أو مذهباً إسلامياً خاصاً – وبين من يكون عنده الدافع السيّئ ويتّبع هواه ويريد تشويه وجه الإسلام المقدّس، ونحن نؤيّد الطائفة الأُولى ونكرّمها ونعظمها طائفة إسلامية لا تريد إلاّ الصلاح والسداد، ثمّ نقيم مع ذوي الفكرة منهم حوارات علمية إسلامية خارجة عن كلّ عصبية عمياء، حتّى نصل إلى الواقع، لتتحدد صفوفنا ومواقفنا العلمية ببركة البحث، المناظرة ونقتطف ثمارها اليانعة.
ويا للخسائر الناتجة عن النزاع في خلق القرآن وحدوثه أو قدمه في القرن الأول من الهجرة، فبدلاً من التطور العلمي الذي ينتظر من تضارب الأفكار احتلّ تضارب الأبدان مكانه، وكذا الخلافات بين أهل الحديث وأهل الرأي وبين الأشاعرة والمعتزلة و... فنرى أنّ بعض الأفكار الجافة تتهم أصحاب المذاهب الأربعة، بل الخمسة بالشرك
ـ(486)ـ
والبدعة بتقليدهم مذاهبهم وعلماءهم.
وهذا الخطأ في مصداق البدعة والسنّة قد أسفر عن قتل المسلمين وتشريد بعضهم بعضاً، وانصرف نزاعهم مع أعدائهم إلى أخوتهم؛ بينما يأمر الإسلام بحسن الظنّ وحمل عمل المسلم على الوجه الأحسن؛ وحسب أحاديث كثيرة وآراء فقهية أصيلة لا يجوز نسبة الكفر إلى من انتحل كلمة التوحيد إلاّ بحجّة قاطعة.
وقد تعرّضنا للبحث عن هذا الموضوع في المجاميع الفقهية والكلامية عند البحث عما يوجب الارتداد والخروج عن الدين، وعند البحث عن حدّ المرتد وغيرهما من الموارد التي لها صلةٌ بالموضوع.
السنّة في إطار الفقه:
هناك مصطلح آخر للفظة «السنّة» وهو حينما يستعمل في لغة الفقهاء وفي إطار الفقه، فإنّها قد ترادف المستحب بمعنى ما لا يأثم تاركه وإن كان فعله مرغوباً فيه ومأموراً به، وبعبارة أخرى ما يرجح جانب وجوده على جانب عدمه، ترجيحاً ليس معه المنع من النقيض (1)؛ إذ إنّ الأفعال الاختيارية الصادرة من المكلف لا تخلو من حالات خمس:
1ـ ما يجب فعله وهي الأفعال التي أمر الشارع بإتيانها ولم يسمح بتركها لغير المعذور فيأثم المكلف بتركها عمداً.
2ـ ما أمر الشارع بإتيانه مع الرخصة في الترك فهذا القسم يعتبر مستحباً قد يعبر عنه بالمندوب أو السنّة، فباعتبار أنّ الرسول وأهل بيته وأصحابه كانوا يلتزمون به يعتبر سنّة، وباعتبار أنّه المندوب إليه يُعبّر عنه بالمندوب أو المستحب.
3ـ ما يكون الفعل والترك مساوياً، أي أنّ الشارع لم يأمر به ولم ينه عنه لا تنزيهاً
_______________________________________
1 ـ إرشاد الفحول: 22.
ـ(487)ـ
ولا تحريماً، فهذا القسم يسمّى مباحاً بالمعنى الأخص.
4ـ ما نهى الشارع عن فعله مع الرخصة فيه، أي أنّ الفاعل لـه غير آثم في فعله، فالنهي هنا تنزيهي غير تحريمي، فيسمّى هذا القسم مكروهاً بالمعنى الأخص وتركه سنّة.
5ـ ما نهى الشارع عن إتيانه ولم يسمح بفعله من غير عذر، فهذا القسم يسمّى حراماً وقد يعبّر عنه بالكراهة التحريمية.
وعلى كل حال لا بدّ أن نعلم بأن الأحكام الأربعة غير المباح قد تكون لها درجات في الوجوب والاستحباب والكراهة والتحريم، فهناك واجبات مؤكّدة ومحرّمات شديدة، بينما يكون بعض الواجبات والمحرّمات أخفّ وجوباً وتحريماً، كما نستشفّ ذلك من العقوبات المقررة للمتخلفين؛ فإنّ زنا المحصن بذات محرم أشدّ عقوبة وآكد تحريماً من زنا غير المحصن بغير ذات المحرم وهكذا، وللتعبير عن مدارج الوجوب والحرمة عبارات قد التقط كثير منها من الأحاديث والآيات المغلظة والشديدة وغيرها، لا نطيل البحث عنها وإنّما نركّز هنا بالذات على مصطلح السنّة في هذا الحقل من أنّها بمعنى المستحب، أي ما يقابل الواجب والحرام والمباح بدرجات شتّى في الشدّة والضعف.
وهذا المصطلح دارج في الأوساط الفقهية عند المذاهب الإسلاميّة.
ثمّ إنّ للأحناف هنا اصطلاحاً خاصّاً قد يلتقي مع ما بيّناه آنفاً ، كما أنّهم قد صنّفوا الأحكام إلى أكثر ممّا ذكرنا، فقالوا: ما ثبت بالكتاب أو بدليل قطعي فهو فرض، وما ثبت بالسنّة والأدلة الظنّية فهو واجب، ثمّ كلّما واظب عليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو سُنّة مؤكّدة لا يسمح في تركها من غير عذر، وهنا تختلف عبارات فقهاء الأحناف، فبعضها تفيد دخول هذا القسم في الواجب بالمصطلح الغابر وبعضها تفيد دخوله في المستحب (المؤكّد).
وإنّما نأتي هنا بنموذج من العبارات كي نحصل على فكرة من ذلك:
ـ(488)ـ
قال ابن النجيم في مبحث سنن الوضوء ما لفظه: «إنّ السنّة ما واظب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه، لكن إن كانت لا مع الترك فهي دليل السنّة المؤكّدة، وإن كانت مع الترك أحياناً فهي دليل غير مؤكدة، وإن اقترنت بالإنكار على من لم يفعله فهي دليل غير مؤكدة، وإن اقترنت بالإنكار على من لم يفعله فهي دليل الوجوب»(1).
وهذا البيان يعطي نفس المصطلح الذي ذكرناه أوّلاً في تخميس الأحكام التكليفية وجعل السُنّة في دائرة المستحبّ على ذلك الاصطلاح.
ولكن العلاّمة الحصكفي وهو من كبار فقهاء الأحناف يقول في حكم الآذان: «هو سنّة مؤكدة هي كالواجب في لحوق الإثم»(2).
فهذا الكلام يجعل السنّة المؤكّدة في إطار الواجب من ناحية الضابط، حيث رتّب على تركه الإثم.
وهكذا أسهب ابن عبادين في الكلام عند شرحه در المختار فقال: «اعلم إنّ المشروعات أربعة أقسام فرض وواجب وسنّة ونفل؛ فما كان فعله أولى من تركه مع منع الترك إن ثبت بدليل قطعي ففرض أو بظنّ واجب وبلا منع الترك أن كان ممّا واظب عليه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الخلفاء الراشدون من بعده فسنّة وإلاّ فمندوب ونقل، والسنّة نوعان سنّة الهدى، وتركها يوجب إساءة وكراهية كالجماعة والأذان والإقامة ونحوها، وسنّة الزوائد وتركها لا يوجب ذلك كسَيْر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في لباسه وقيامه وقعوده والنقل ومنه المندوب يثاب فاعله ولا يسيء تاركه».
ويتابع كلامه في سطور ثمّ يقول: «سنّة الهدى وهي السنن المؤكدة القريبة من الواجب التي يضلَّل تاركها، لأنّ تركها استخفاف بالدين...»(3).
_______________________________________
1 ـ البحر الرائق 1: 17.
2 ـ در المختار 1، الموجود مع شرحه رد المختار: 383.
3 ـ رد المختار 1: 70.
ـ(489)ـ
فيمكن أن يستنتج من قوله في تعريف سنّة الهدى: «إنّ تركها يوجب إساءة» وكذا قوله: «قريبة من الواجب يضلّل تاركها لأنّ تركها استخفاف الدين» أنّه يجعل لسنّة الهدى موقع الواجب، فإنّ الضلال والاستخفاف بالدين والإساءة ليست أشياء يسمح بها.
نعم إلاّ أن نحمل كلامه بما اعترف به كثير من الفقهاء من السنّة والشيعة أنّ ترك السنن بالمرة إذا كان عن استخفاف وتحقير فهو غير جائز(1)، فحينئذٍ لا بدّ أن نقول ما أراد من السنّة إلاّ ما يقع في إطار المستحب ولو في مدارجه العالية، فمراده من أنّ تاركها مضلل أو مستخفّ بالدين هو فيما إذا تركها إعراضاً واستخفافاً لا مجرّد الترك من غير عذر، وقد يتراءى من كلمات بعض أنّ السنّة شيء أعلى من المستحب، فتقع في إطار الواجب ولكن في أدنى مراتبه، فنرى أبا اليسير قد عرّف السنّة بأنّها: «كلّ نفل واظب عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل التشهّد في الصلاة والسنن الرواتب، وحكمها أن يندب إلى تحصيلها ويلازم على تركها مع لحوق إثم يسيره»(2).
وهكذا جاء في فتاوى (عالم كيرية) في باب النوافل:
«رجل ترك سنن الصلاة، فإن لم ير السنن حقّاً فقد كفر، لأنّه تركها استخفافاً، وإن رآها حقّاً فالصحيح أنّه يأثم، لأنّه جاء الوعيد بالترك»(3).
وفي هذا المجال قد اضطربت كلمات الإعلام بحيث لا يمكن تخليص ضابط شامل، ولكن لا أرى لإسهاب الكلام في هذا الكرّاس المحدّد حول تحديد السنّة مجالاً، ولا يهمّنا تأطير السُنّة في حقل الفقه بل الذي يهمّنا هو تحديد وتبيين مصاديقها من حيث الحكم،
_______________________________________
1 ـ أُعطيك مثالاً لذلك: إنّ كثيراً من فقهاء الشيعة بينما عدّوا حضور صلاة الجماعة من المستحبات المؤكدة قالوا: لا يجوز تركه استخفافاً.
2 ـ كشاف اصطلاحات الفنون 1: 707.
3 ـ الفتاوى العالمكيرية 1: 112.
ـ(490)ـ
سواء سمّيناها سنّة أو واجباً أو مستحباً، ومن الطبيعي أن ندرس المصاديق في أبوابها المختصّة في الفقه.
السنّة في إِطار أُصول الفقه:
وهناك اصطلاح آخر للسنّة يجعلها في جنب الكتاب والإجماع والقياس والاستحسان، وهكذا ففي هذا الإطار تكون السنّة من مصادر الأحكام ومن الأدلة الشرعية عليها.
والسُنّة بهذا المفهوم لا شكّ في حجّيتها بالجملة، وقد أذعن لها جميع الشعوب الإسلاميّة بمختلف مذاهبها لم يشذ عنها حتّى مذهب واحد.
قال الشوكاني: «إنّ ثبوت حجّية السنّة المطهرّة واستعمالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلاّ من لا حظّ لـه في دين الإسلام»(1).
وقال محمّد تقي الحكيم: «والحقيقة أنيّ لا أفهم معنى للإسلام بدون السنّة»(2).
ولذا نرى حينما ورد في تحديد موضوع علم الأُصول ناقشوا من جعل السنّة من حيث إنّ موضوع كلّ علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، أي بمعنى كان الناقصة بينما حجّية السنّة قطعية لا شكّ فيها، وإنّا نبحث في الأُصول عن إثبات السنّة لا حجّيتها فكان البحث مدلول كان التامّة، فحجّية السنّة لا مجال في مناقشتها أصلاً (3).
نعم من الطريف أنّ الدهر لا يترك ضرورة إلاّ يناقشها، ومع الأسف قد وقعت السنّة أيضاً هدفاً لنبال المناقشة أحياناً من قبل الأعداء الذين حاولوا هدم الإسلام، وقد ناقشوا فيها جهلاً بقيمتها أو على أثر الشبهات الهالكة التي حصلت عندهم في اضطراب
_______________________________________
1 ـ إرشاد الفحول: 33.
2 ـ الأُصول العامّة للفقه المقارن: 126.
3 ـ راجع كفاية الأُصول: 3.
ـ(491)ـ
الأفكار؛ فنراهم قد قاوموا السنّة ومنعوا نشرها في آونة وآونة، فقد تمسّكوا لتعليل ذلك بالمدافعة عن القرآن خوفاً من مهجوريته، وقد التجؤوا إلى أنّ السنّة لمّا اختلطت بالأكاذيب فلا بدّ أن تُرفض، وقد احتجوا لعدم اعتبار السنّة بأنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان بشراً قد يصدر منه الخطأ وغير ذلك.
وبدأت هذه الظاهرة منذ بزوغ الإسلام في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فقد روي عن عبدالله بن عمر أنّه قال: «كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أُريد حفظه، فاتهمتني قريش، فقالوا: إنكّ تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بشر يتكلّم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك للرسول فقال اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي إلاّ حقّ»(1).
ولهذا الحديث نظائر نجدها في طيّات تاريخ حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أصحابه مودعة في كتب السير والمجاميع الروائية.
وهكذا نجد كثيراً من المواجهات العنيفة ضدّ السنّة المحمّدية صلّى الله عليه وآله وسلّم بحجج تّتسم بسمة تبرير السياسات والمواقف الاجتماعية حينذاك، وفي طليعتها الذبّ عن القرآن وعدم مهجوريّته، وهذه الكارثة العظيمة ترسم قصّة طويلة خصوصاً في القرون الأُولى من ظهور الإسلام، وقد أّلّفت في ذلك كتب ومجاميع تهتمّ بدراسة تطور الحديث في ذلك الوقت (2)، مضافاً إلى ما رووه عن النبيّ في النهي عن كتابة الحديث التي لا تلائم ما رووه في نقل الحديث وكتابته، كما لا تلائم سيرة كبار المحدّثين الذين كتبوا نفس هذه الأحاديث أيضاً، فعلى الباحث أن يقارن بين الأحاديث الواردة في كتابة الحديث ونقله نفياً وإثباتاً، ثمّ يجعلها في بوتقة التدبّر والتحقيق – مع ملاحظة الظروف السائدة حينذاك – فيستخرج
_______________________________________
1 ـ المدخل للفقه الإسلامي نقلاً عن سنن أبي داود.
2 ـ راجع كتاب أضواء على السنّة المحمّدية، محمود أبو رية.
ـ(492)ـ
حولاً تواكب الواقع المعاش، خصوصاً إذا جعلنا في جنبه كلّ الأدلة الآمرة باتّباع النبيّ، وكونه قدوة وأُسوة للبشرية جمعاء لا يختص بجيل دون جيل؛ فهل يمكن أن نمنع من الكتابة والنقل ؟ وهل يكون الإسلام الموجود عندنا – المستمد جذوره وفروعه من السنّة – إلاّ بفضل ما ألفوا من موسوعات حديثية ؟! ولا أظنّ أن يبقى أيّ غبار على لزوم الاحتفاظ بسنّة الرسول نقلاً وكتباً في جميع الأجيال، ولا يبقى أمامنا بدٌّ في مواجهة الأحاديث المانعة عن تداول الحديث – سواء ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو عن الصحابة – من تأويلها أوردّها، أخذاً بعموميات الكتاب والسنّة بما يقتضي القول والفطرة، واقتداءً بالسلف الصالح حيث دوّنوا وألفوا ومارسوا الأحاديث بأقصى طاقاتهم، ولنترك الحديث المسهب للمجال المناسب لـه.
سنّة الرسول ومساحتها:
ثمّ هنا بحث حول تحديد السنّة النبوية، هل تشمل جميع أقوال الرسول وأفعاله وتقاريره كما عليه كثير من المسلمين، خصوصاً الشيعة الإمامية حيث إنّهم اعترفوا بحجّية كل ما صدر عن الرسول قولاً وفعلاً وتقريراً، وهكذا سلك جميع فقهاء الإسلام في مجال الفقه وأصوله، حيث جعلوا من السنّة أقوال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأفعاله وتقاريره واستدلّوا بها في تخريج الأحكام، ولكن جثت أمامهم شبهة في إطلاق حجّية السنّة في حقل الكلام، حيث لم يستطيعوا أن يذعنوا بعصمته صلّى الله عليه وآله وسلّم في جميع المجالات، بل كثيرٌ منهم خصّصوا العصمة بمجال التشريع، وما يدلّ على عصمته فيه المعجزة؛ وهذا الكلام أمر مدخول فيه لا يمكن الإذعان به، حيث لا يلائم عدم عصمته في جميع المجالات مع وجوب اتّباعه وكونه أسوة وقدوة لا ينطق عن الهوى، وقد ثبّته الله بقدرته ومشيئته، وهناك كثير من الآيات والأحاديث المتواترة الدالة على عصمته مضافاً إلى دليل العقل.
ـ(493)ـ
وتمام الكلام في هذا الموضوع يتطلّب فتح كراس خاصّ بذلك، ونحن هنا نواكب الفقه ومصادره وفق ما عليه جمهور المسلمين من الأخذ بأقواله وأفعاله وتقاريره صلّى الله عليه وآله وسلّم بلا تقييد واستثناء، ومع الاعتراف بعصمته المطلقة لا يبقى تعارض أصلاً، وعلى غير المعترفين بالعصمة أن يجدوا حلاًّ مع إذعانهم بها قولاً وعملاً، والاعتراف بحجّية أفعاله وأقواله وتقاريره.
ولا ضير أن نذكر هنا نموذجاً لكلمات عباقرة الفن كي نقف على فكرة منصوصة، ونجتزئ لذلك بذكر كلام الآمدي حول عصمة الأنبياء وإليك نصّه:
«أمّا قبل النبوّة فقد ذهب القاضي أبو بكر وأكثر أصحابنا وكثير من المعتزلة إلى أنّه لا يمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو صغيرة، بل ولا يمتنع عقلاً إرسال من أسلم وآمن بعد كفره؛ وذهبت الروافض(1) إلى امتناع ذلك كلّه منهم قبل النبوّة، لأنّ ّذلك ممّا يوجب هضمهم في النفوس واحتقارهم والنفرة عن اتّباعهم، وهو خلاف مقتضى الحكمة من بعثة الرسل، ووافقهم على ذلك أكثر المعتزلة إلاّ في الصغائر؛ والحقّ ما ذكره القاضي لأنّه لا سمع قبل البعثة يدلّ على عصمتهم عن ذلك (2). والعقل دلالته مبنيّة على التحسين والتقبيح العقلي، وأمّا بعد النبوة فالاتّفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمّد كلّ ما يخلّ بصدقهم فيما دلّت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن الله تعالى، واختلفوا في جواز ذلك عليهم بطريق الغلط والنسيان، فمنع منه الأستاذ أبو إسحاق وكثير من الأئمّة، لما فيه من مناقضة دلالة المعجزة القاطعة، وجوّزه القاضي أبو بكر مصيراً منه إلى أنّ ما كان من النسيان وفلتات اللسان غير داخل تحت التصديق
_______________________________________
1 ـ لفظة «الروافض» هي ما لقبت الشيعة بها تشنيعاً بهم،وقد تستعمل في معنى أخصّ من ذلك، ولا يهمّنا التعبير وإنّما نعمد إلى المعبَّر عنه.
2 ـ لا يخفى إنّهم استدلّوا أيضاً بوجوه سمعيّة منها قوله تعالى ﴿لا يَنالُ عَهدي الظالِمين﴾(سورة البقرة: 124) وقد أجاد الكلام في ذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير، فراجع ذيل الآية الشريفة.
ـ(494)ـ
المقصود بالمعجزة، وهو الأشبه. وأمّا ما كان من المعاصي القولية والفعلية التي لا دلالة للمعجزة على عصمتهم فيها... ما ليس بكفر، فإمّا أن يكون من الكبائر أو ليس منها؛ فإن كان من الكبائر فقد اتفقت الأُمّة سوى الحشوية، ومن جوّز الكفر على الأنبياء على عصمتهم عن تعمّده من غير نسيان ولا تأويل.. وأمّا إن كان فعل الكبيرة عن نسيان أو تأويل خطأ فقد اتفق الكلّ على جوازه سوى الرافضة، وأمّا ما ليس بكبيرة فإما أن يكون من قبيل ما يوجب الحكم على فاعله بالخسّة ودناءة الهمّة وسقوط المروّة، كسرقة حبّة أو كسرة فالحكم فيه كالحكم في الكبيرة، وأمّا ما لا يكون من هذا القبيل كنظرة أو كلمة سفه نادرة في حالة غضب، فقد اتفق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة على جوازه عمداً وسهواً خلافاً للشيعة مطلقاً وخلافاً للجبائي والنظام وجعفر بن بشر في العمد»(1).
ومن الطريف جدّاً ذكر هذه التخرّصات التي تفوح منها رائحة الاستحسان والاستدلالات العقلية والذوقية، بينما يعترف بعدم جدوى العقل لأنّه مبنيّ على التحسين والتقبيح الممنوعين، وعلى كلّ حال إذا أخذنا هذه المباني وأجريناها في ساحة أصول الفقه أيضاً، فلا بدّ أن نضيّق إطار السنّة بما دلّت المعجزة على صدقه ورفع اليد عن حجّية قول النبيّ وفعله وتقريره مطلقاً. ثمّ لا أدري أيّ ضابط يحدّد لنا مدلول المعجزة على صدقه من غيره، كي يميّز بين الحجّة وغيرها من أقوال النبيّ وأفعاله وتقاريره صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ولكنّ كثيراً من الفقهاء قد غفلوا أو تغافلوا عن هذه المباني في أصول الفقه ومجال الأخذ بالسنّة، وهذا الذي يؤاخي المسلمين ويواكبهم ويوحّد صفوفهم في الأخذ بالسنّة مطلقاً والاقتداء به صلّى الله عليه وآله وسلّم كقدوة عُليا.
ولكن الآمدي حاول تبرير الأخذ بالسنّة بأوسع ممّا تقتضيه هذه المباني الكلامية، فقال عند محاولة إثبات الحجية لأفعال النبيّ غير القربية: «أما إذا لم يظهر منه
_______________________________________
1 ـ الأحكام للآمدي 1: 156، 157.
ـ(495)ـ
قصد القربة فهو وإن جوّزنا عليه فعل الصغيرة غير أنّ احتمال وقوعها من آحاد عدول المسلمين نادر، فكيف بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟ ! بل الغالب من فعله أنّه لا يكون معصية ولا منهيّاً عنه، وعند ذلك فما من فعل من آحاد أفعاله إلاّ واحتمال دخوله تحت الغالب أغلب... فكلّ فعل لا يكون منهيّاً عنه لا يخرج عن الواجب والمندوب والمباح...»(1).
ومن الواضح أنّ الادّعاء المذكور لا يحلّ مشكلة خصوصاً فيما إذا كان يعرّض النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم للاتّهام إذا جعلناه كسائر الناس غير المعصومين، حيث إنّ غلبة الظنّ تعقد فيما إذا كان مورداً لجلب المنفعة أو دفع المضرّة عن النفس، ألا نرى أنّه لا يقبل الإقرار للنفس ولو عن العدول،وهكذا لا يمكن أنّ نأخذ بالمبادئ التي تعالج لنا التعارض بالعموم والخصوص والمطلق والمقيّد، حيث لم نعلم أنّ صدور المضاد كان تخصيصاً وتقييداً أو خطأً وتأويلاً أو عصياناً وتمّرداً ؟!
وأُكرّر الكلام بكلّ ابتهاج وسرور أنّ المسلمين متفقون على حجّية سنّة الرسول بسعتها في مقام تخريج الأحكام والاقتداء به فلهم أسوة حسنة فيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ما بقي علينا من الموضوعات:
إلى هنا تكلّمنا عن سنّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولتتميم الكلام بقي علينا أنّ نخطو خطوات ثلاثاً كي نعطي للبحث الشمولية اللائقة، ولكن عدم إتاحة الفرصة أعاقنا عن تتميم البحث ونرجو أنّ تتاح الفرصة في المستقبل القريب، لكي نتابع دراستنا هذه في الحقول الثلاثة المتروكة، وإنّما أقتصر هنا بعرض فهرست لما لم نذكره وإليك الملخّص:
الموضوع الأول: هل إطار السنّة التي يُستند إليها في تخريج الأحكام يشمل سنّة الصحابة أو التابعين أو لا ؟ وما هي آراء المذاهب في ذلك ؟ إذ إن هناك خلافات في شمولية
_______________________________________
1 ـ الأحكام 1: 161.
ـ(496)ـ
السنّة وتحديد مفهوم الصحابي والتابعي، وأنّ قول الصحابي أو التابعي إنّما هو حجّة عند فقد الكتاب والسنّة النبويّة، أو هو حجّة مطلقاً، وأنّه ليس بحجّة إلاّ إذا كان كاشفاًً عن رأي النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلاّ فقولهم بنفسه لا يقام لـه وزن.
الموضوع الثاني: هناك قول تعترف به مدرسة أهل البيت، وهو أنّ أهل البيت بالتحديد المعيّن المقصور على أشخاص معينين وهم أئمّة أهل البيت، قولهم قول الرسول ورأيهم رأيهم لا يخالفون ولا يختلفون عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم فسنّتهم حجّة كسنة الرسول بل هي عينها، ويستندون في ذلك إلى أدلّة من الكتاب والسنّة، ولا يرون أقوال الأصحاب حجّة إلاّ إذا توفرت فيها شروط حجّية الخبر من الوثاقة والاتصال وغيرهما .
الموضوع الثالث: ما هي المثبتات للسنّة، بمعنى أنّ السنّة بعد قبول حجّيتها كيف يمكن الحصول عليها ؟ وهنا أيضاً مواقع للخلاف، فمن مذاهب المسلمين من عيّن ضوابط يتابعها في جميع الموارد ولا يفرّق في ذلك بين جيل من عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عصرنا هذا، ومنهم من جعل من الضوابط كون الراوي صحابيّاً، فبينما لا يرى قول الصحابي ورأيه حجّة يرى خبره حجّة لا يحتاج إلى الفحص عن توفر شروط الحجّية فيه، ومنهم من أضاف إليه قول التابعي أيضاً.
وهذه المواضع الثلاثة تتطلّب بحثاً واعياً شاملاً لا يقلّ عمّا بحثنا عنه، فنرجو من الله القدير أن يمنحنا توفيق المتابعة.