ـ(199)ـ
والتدبير والنظر في قوله تبارك اسمه: [وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا لـه من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون](1) ينبئ أن الإنابة لم تؤخذ في معناها الحقيقي، أو أنها ليست الإنابة التامة لأولياء الله، رغم أن هذه الآية الكريمة تشير إلى الإنابة والتسليم لكن لا يعني أن ذلك من خصوصيات مقام غير مقام عموم الناس، وهذا متروك إلى محله.
فقوله تعالى: "وأنيبوا..." يعني: الرجوع إليه و(العودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام بلا طقوس، ولا مراسم، ولا حواجز، ولا وسطاء، ولا شفعاء، إنه حساب مباشر بين الرب والعبد، وصلة مباشرة بين الخالق والمخلوق، فمن أراد الأوبة من الشاردين فليؤب، ومن أراد الإنابة من الضالين فلينب)(2).
أخرج عبد بن حميد وابن جرير، عن قتادة في قوله تعالى: [وأنيبوا إلى ربكم] قال: أقبلوا إلى ربكم. وأخرج ابن المنذر، عن عبيد بن يعلى أنّه قال: الإنابة: الدعاء(3).
فإتيان الإنابة بمعنى: الرجوع أو العود أو الدعاء من خلال النظر والتدبر في الآيات الكريمة يعني ذلك: أن العبد لابد أن يكون رجوعه رجوع اعتذار كما هو الحال في التوبة بعد ترك الذنب والاستغفار منه، وهذا العود يشهد للعبد بصحة الحال والثبات، وعدم التهاون والغفلة:.تلقاك بالإنابة واخلص لك التوبة "(4).
أما مسألة ذكر الإنابة في هذه الآية الكريمة واشتمالها على معان كثيرة فهو مطلب يحتاج إلى مقارنة بين منزلة التوبة ودرجة الإنابة، كما سيأتي في محله؛ لأن التوبة والمغفرة التي أكدت على ضرورة الإخلاص في التوبة النصوح والانتقال إلى درجة الإنابة. وقد يصح أن نقول: إنّ الإنابة تعني في مقام بعض السالكين توبة، وفي مقام آخر إنابة وعودة؛ لأنها: (رجوع إلى الله، وهو التوبة من وضع الظاهر موضع المضمر، وكان مقتضى الظاهر
__________________________________
1 ـ الزمر: 54.
2 ـ جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض لأمين الخوري: 194.
3 ـ في ظلال القرآن لسيد قطب 6: 2581 في تفسير الآية: 54 من الزمر، والدر المنثور 5: 332.
4 ـ الصحيفة السجادية، شرح عز الدين الجزائري: 82.