ـ(44)ـ
العقل النظري فإننا نرى لأول وهلة أنه لا يمكن أنّ يستقل بإدراك الأحكام الشرعية ابتداء، والسبب في ذلك أنّ أحكام الله توقيفية، لا يمكن العلم بها إلاّ من طريق السماع من الرسول المبعوث من قبل الله لهذه المهمة.
بداهة أنّ أحكام الله ليست من القضايا الأولية، وليست مما تنالها المشاهدة بالبصر والحواس الظاهرة أو الباطنة، كما أنها ليست مما تنالها التجربة والحدس، وإذا كانت كذلك فكيف يمكن العلم بها من غير طريق السماع من مبلغها؟
وقال الشيخ المفيد: (اتفقت الإمامية على أنّ العقل يحتاج في علمه ونتائجه إلى السمع، وأنه غير منفك عن سمع ينبه الغافل على كيفية الاستدلال، وأنه لابد في أول التكليف وابتدائه في العالم من رسول)(1). وعلى هذا الأساس بنى نفاة حجية العقل دعواهم، مؤكدين أنّ أحكام الله سمعية لا تدرك بالعقول.
وقد اعتمد الأصوليون على إدراك العقل في موردين:
المورد الأول: أنّ يدرك العلة التامة المؤلفة من: المقتضي، والشرط، وعدم المانع للملازمة بين هذا الإدراك وحكم الشرع، لكنه نادر جداً.
قال المحقق النائيني: (إنّ العقل بعدما أدرك المصلحة الملزمة في شيء كالكذب المنجي للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أو لجماعة من المؤمنين ـ مثلاً ـ وأدرك عدم مزاحمة شيء آخر لها، وأدرك أنّ الأحكام ليست جزافية، وإنّما هي لأجل إيصال العباد إلى المصالح وتبعيدهم عن المفاسد كيف يعقل أنّ يتوقف في استكشاف الحكم الشرعي بوجوبه ؟ ويحتمل مدخلية وساطتهم ـ عليهم السلام ـ، بل لا محالة يستقل بحسن مثل هذا الكذب، ويحكم بمحبوبيته)(2).
المورد الثاني: أنّ يدرك أمراً خارجياً ثابتاً مثل: استحالة اجتماع النقيضين، ويسمى بـ "العقل الفكري"، فيستتبع حكماً شرعياً لا محالة، فإن إدراكه ذلك يلزمه أنّ يدرك استحالة أنّ يأمر المولى بشيءٍ وينهى عنه أو يأمر بضده، وعليه فوجوب فعل في
__________________________________
1 ـ أوائل المقالات للمفيد: 44.
2 ـ أجود التقريرات، تقريرات النائيني للسيد أبي القاسم الخوئي 2: 40.