ـ(38)ـ
وترك الراجح، بل ليس من الممكن لأي عاقل مهما كان شأنه أنّ يختار المرجوح، وهو سليم معافى فكيف بخالق العقل ومدبره ؟ !
فالالتزام بتقيده في تشريعاته على وفق العقل: إنّ أريد به التقيد السالب للاختيار فليس بصحيح، وهو تعالى مما ينزه عنه. وإن أريد به نتيجة التقيد ـ وهو ما يقتضيه عمل العاقل المختار ـ فليس فيه أي محذور.
الرابع: ودليلهم الرابع لا يخلو من ملاحظة، فإن قولهم: لو لم يكن الحسن والقبح في الأفعال بحكم الشارع نفسه وكان بحكم العقل لا يستحق تارك الحسن وفاعل القبيح قبل بعثة الرسول العقاب فلا وجه لدعوى التلازم بين المقدم والتالي، إذ لاتنا في بين القول بأن الحسن بحكم العقل وبين عدم استحقاق العقاب.
فالعقول وإن أدعي بأن لها قابلية الإدراك إلاّ أنّ إدراكها منحصر في الكليات ولا يتناول الأمور الجزئية، كما لا يتناول مجالات التطبيق إلاّ نادراً، والكليات لا تستوعب شريعة، ولا تفي بحاجات البشر، ومع ذلك فالعقاب والثواب إنّمّا يتولدان عن التكاليف الواصلة، ومجرد إدراك العاقل أنّ هذا الشيء مما ينبغي أنّ يفعل أو لا يفعل لا يستكشف منه رأي الشارع إلاّ إذا انتبه إلى ان العقلاء متطابقون على هذا المعنى بما فيهم الشارع، وإدراكه لتطابق العقلاء ليس من الأمور البديهية، وإنّما هو من الآراء المحمودة التي تحتاج إلى تنبه وتأدب، وأين التأدب في أمثال هذه القضايا قبل بعثة الرسل ؟
فالتكليف إذن بالنسبة إلى نوع الناس غير واصل قبل البعثة، ولا تتم الحجة إلاّ بوصوله: [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً](1).
ومن أوليات العقل تقبيحه للعقاب قبل وصول البيان، وعلى هذا فليس هناك ما يمنع من الالتزام بإدراك العقل للحسن، وعدم الالتزام بالعقاب والثواب.
والذي يبدو من بعض الأحاديث أنّ هناك من أدرك حكم الشرع من طريق العقل وخالفه فاستحق لذلك العقاب، ففي بعض الأحاديث: "امرؤ القيس قائد الشعر إلى النار"(2). وفي بعضها الآخر: "رأيت عمر بن لحي يجر قصبه ـ أي: أمعائه ـ في
__________________________________
1 ـ الإسراء: 15.
2 ـ مسند أحمد بن حنبل 2: 228.