ـ(60)ـ
وصلوا إليه عمدوا إلى الآيات التي يظهر لهم أنهم تخالف الأولى فأولوها، فكان التأويل طريقاً من طرق النظر العقلي، وطبيعي أنّ هذا المنحى في التأويل وإعطاء العقل حريته في البحث والنظر يستلزم تعدد المذاهب(1).
ويقول ابن خلدون: (إنه توجد في القرآن آيات متشابهة يلتبس معناها على القارئ؛ لذلك نشأ خلاف في تفاصيل العقائد، أكثر مثارها من الآيات المتشابهة، فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر، والاستدلال بالعقل) (2).
فالعلماء لم يختلفوا على تنزيل القرآن، وإنّما اختلفوا على تأويله، أي: أنهم ـ كما يقول الزمخشري متفقون على نصه، ولكنهم مختلفون في تفسيره، فالقرآن فيه محكم ومتشابه، ولو كان القرآن كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجونه فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولركنوا إلى طريقة التقليد.
إنّ وجود متشابه الآيات أدعى إلى أنّ يشحذوا الفكر للاستنباط، ويكدوا في معرفة الحق خواطرهم، وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه، وما في رد الآيات المتشابهة إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة، ونيل الدرجات عند الله (3).
ويعلق الدكتور أحمد محمود صبحي ـ على ما ذكره الزمخشري ـ فيقول: (وهكذا ألمح الزمخشري إلى عاملٍ من أهم عوامل ازدهار الحضارة الإسلاميّة عقيب قيام الإسلام، إذ الزم القرآن المسلمين بما غمض من معاني آياته وبمحكمه ومتشابهه:
البحث، والنظر، والتفكير، والاستنباط، ولو كان سهل المأخذ يسير الفهم لكانت السطحية التي تغري بالتقليد والجمود، فالاختلاف قرين حرية الرأي والتفكير) (4).
_________________________________________________
1 ـ العقيدة الإسلاميّة، للأحمد عليّ الملا، ومحمد بشير الرزّ: 123، ط. دار الكتاب العربي، دمش(1404 هـ) 1984 م.
2 ـ عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته: 120 ط. بيروت.
3 ـ الزمخشري في الكشاف 1: 220.
4 ـ الدكتور أحمد محمود صبحي في علم الكلام: 24 ـ 35، ط. مؤسسة الثقافة الجامعية بالاسكندرية (1978م).