ـ(56)ـ
والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلاّ في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضةً، ولا مقتضبةً في سياق الآية، بل تأتي في كلّ موضعٍ من مواضعها، مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحدٍ من معانيه، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل منها في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يضم الخطاب في الآيات القرآنية كلّ ما يتسع لـه الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة.
ومن خصائص العقل: أنّ ملكة الإدراك التي يناط بها الفهم والتصور.
ومن خصائص العقل أيضاً: أنّه يتأمل فيما يدركه ويقلبه على وجوهه، ويستخرج منه بواطنه وأسراره، ويبني عليها نتائجه وأحكامه، وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة "الحكيم".
ومن أعلى خصائص العقل الإنساني: "الرشد"، وهو مقابل لتمام التكوين في العقل الرشيد.
وفريضة التفكر في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها؛ لأن الكتاب الذي ميز الإنسان بخاصة التكليف هو الكتاب الذي امتلأ بخطاب العقل بكل ملكةٍ من ملكاته، وكل وظيفةٍ عرفها لـه العقلاء والمتعقلون
والعقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يدرك الحقائق، ويوازن بني الأضداد، ويتبصر ويتدبر(1).
فالإسلام هو الدين الذي أعلا من شأن العقل وعده أداةً صالحةً لتعرف
________________________________________
1 ـ التفكير فريضة إسلامية لعباس محمود العقاد: 120