ـ(172)ـ
بعض النصوص ونسيانها، وتطور الحياة وتعقدها، يصحبه خزل عدد كبير من الوقائع التي لم يرد فيها نص خاص، مما يوجب الرجوع إلى القواعد العامة ولم يكن هذا متجلياً في زمن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ، فإن وجوده كان رحمة وبركة، ولم يحس المسلمون بالحاجة الماسة إلى الاجتهاد؛ لكونهم على مقربةٍ من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يرجعون إليه في كل صغيرة وكبيرة، ويسألونه في أمور دينهم، بل حتى في أمور دنياهم.
وعلم الأصول لم يعرف في فقه الإمامية بمعناه الواسع إلاّ بعد الغيبة الكبرى سنة(329 هـ) بمدة. فقد تفتحت الذهنية الأصولية، ودرست العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وإن كانت بذور الفكر الأصولي قد تشكلت في أذهان أصحاب الأئمة(عليه السلام) منذ عصر الصادقين عليهما السلام، وقد أمروا أصحابهم بالاجتهاد والتفقه، وكذلك بينوا لهم الكثير من القواعد الأصولية: كالاستصحاب وغيره. فأبان بن تغلب كان يفتي، والفتوى لا تنفك عن الاجتهاد.
وكان السبب في توسع علم الأصول بعد تلك الفترة عند الإمامية هو: رجوعهم إلى أئمتهم، فقد كانوا(عليه السلام) منبعاً ثراً ومنهلاً ضحماً للمعارف وعلوم الشريعة المقدسة، وكانوا يمدون أتباعهم بكل ما يحتاجون إليه، ويفتونهم بكل ما يسألون عنه، ولاشك في مرجعيتهم(عليه السلام) العلمية للمسلمين كافة، حيث تربى في رحاب مدرستهم كبار فقهاء الأمة: كبعض أئمة المذاهب المعروفة وإن لم يكن الأئمة(عليه السلام) مجتهدين بالمعنى المعروف اليوم، كما أن دورهم لم يكن منحصراً في نقل وحكاية السنة النبوية الشريفة.
ويرى الأستاذ أبو زهرة: أن الشافعي هو مؤسس علم الأصول، حيث يقول:(والجمهور من الفقهاء يقرون للشافعي بأسبقيته بوضع علم الأصول)(1).
______________________________
1ـ محاضرات في أصول الفقه الجعفري لمحمد أبي زهرة: 6، والشافعي حياته... لمحمد أبي زهرة: 196.