/ صفحة 18 /
لا يصدر في موقفه هذا عن رأي يدين به، ولكن عن مصلحة يحاول الحصول عليها أو استبقاءها، ومصداق ذلك قوله تعالى في الخلف الطالح: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه. ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون).
وفي سبيل النهي عن التفرق يذكر الله المؤمنين الأولين، وقد حل بينهم بفضل التمسك بكتاب الله والاعتصام به الودُّ والصفاء محل البغض والجفاء ـ يذكرهم بتلك الأخوة التي أفرغها عليهم الأيمان بالله، والتي أنعم الله بها عليهم فقضت على ما كان بينهم من حروب طاحنة، وتباغض مستمر، وعداء مستحكم، ووحّدت في نفوسهم الإحساس والشعور والرغبة في تحقيق الأغراض السامية، وأصبحوا بفضل هذا الصفاء وتلك الأخوة أسرة واحدة على قلب رجل واحد متحابين متعاونين شعارهم تقوى الله وصالح الناس، وفي هذا إيجاء جلى واضح لمؤمني العصور من بعدهم بأن هذه النعمة ـ نعمة الأخوة ـ تدوم بينهم وثمراتها، بما وجدت به في أولهم من التمسك بالكتاب والاعتصام بحبل الله.
وبعد أن تأمرهم بتقوى الله والاعتصام بحبله، وتنهاهم عن التفرق، تأمرهم بما يحفظ عليهم الأخوة والاعتصام، ويقيهم شر التدهور والانحلال، ويبعث فيهم الشعور بالتضامن في مسئولية بعضهم عن بعض، وفي مسئوليتهم عن الناس جميعا، قتطلب منهم دعوة الناس إلى الحق، وتطلب منهم الائتمار فيما بينهم بالمعروف والتناهي عن المنكر، وقد جعل الإسلام ذلك فرضا من فروض الدين، وعنصراً من عناصر الحياة الطيبة، وأقسم الله سبحانه وتعالى بالعصر، أن الإنسان لا يسلم من خسران في هذه الحياة إلا إذا ضم إلى إيمانه وعمله الصالح، التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما عمادا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقصن علينا مصير الأولين، الذين انحطت فيما بينهم الفضيلة وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى تركز البغي فيما بينهم، واستشرى الفساد في جميع شئونهم (فلولا