ـ(70)ـ
غاياتها، متمكنين من تبين أنواعها، متبصرين بوجوه الاستدلال بها وبطرق دلالاتها اللغوية والعقلية، بعد (الركون) إلى حجية تلك الطرق بما يقدرهم على استثمار كافة طاقات النص التشريعي ـ كليا كان أم جزئيا ـ من حيث (الإبانة) عن مراد الشارع وقصده فيما شرع من الأصول العامة، والدلائل الجزئية على السواء، تلك الدلائل التي تبين لهم أنها تطبيق دقيق للمفاهيم الكلية ـ على ما أثبته الامام الشاطبي ـ من حيث إن الشارع الحكيم قد شرعها (وسائل) عملية، وناجعة لتحقيق مقاصده ومراداته في أوسع مدى كيلا يخالف الحكم عن غايته، تطبيقا وتنفيذا، وإلا كان بطلان التصرف، إذ (الوسائل) وإن كانت في الأصل أحكاما شرعية قدرها الشارع تقديرا يحفظ صلاحيتها لتحقيق غاياتها، غير أن تلك (الغايات والمقاصد) أعظم تقديرا ووزنا، حتى إذا تقاعس الحكم عن تحقيق (الغاية) أو المقصد الشرعي من أصل تشريعه ابتداء لظروف وملابسات محتفة، أو أدى إلى نقيض مقصوده، أوقف تطبيق هذا الحكم في تلك الظروف ليطبق على هذه الواقعة المحتفة بظروفها كلي آخر، يفضي إلى (نتائج شرعية) لا تنوب عن مقاصد الشريعة الكلية، حتى لا يكون ثمة تناقض بين الجزئي والكلي في نطاق الشريعة، أو يصادم مقتضى (مبدأ المشروعية العليا) فيها على النحو الذي بسطنا القول فيه آنفا.
أقول: إن هؤلاء المجتهدين من التابعين وتابعيهم قد تفقهوا بسلفهم الصالح من (الصحابة) الكرام الذين اقتعدوا غارب (الاجتهاد الفروعي) للوقائع المتكاثرة، والمختلفة في طبائعها بفضل اتساع حركة الفتوح، إن الاجتهاد، أو القضاء أو الفتيا، أو تدبير شؤون الدولة سياسيا؛ لأن معظمهم كانوا رجال دولة، أو أعضاء في (مجلس شورى الحكم) فضلا عن كونهم مجتهدين علماء في الاستنباط بما يناسب ظروف الأمة ـ داخلا وخارجا ـ في هذه الدولة المترامية الأطراف، وإن كانت أصول تلك الأحكام ـ بادئ ذي بدء ـ مستقرة في نفوسهم بالقوة، وفي أذهانهم معاني ومقاصد استقراء اللغة وبلاغتها، وأسرارها في البيان، ثم أعقب ذلك تدوينا.
غيران التابعين وتابعيهم حتى القرن الرابع قد سلكوا سبيل (الاجتهاد