ـ(44)ـ
ثمرة البحث:
وأما الثمرة في هذا البحث: أن الحكم لا يقبل الانتقال قطعاً، وهذا من القضايا التي قياساتها معها؛ لأن أمر الحكم بيد الحاكم، وليس للمحكوم عليه إسقاطه ولا نقله؛ لأن المفروض أنه لم يجعل لـه السلطة على شيء، ولم يملكه حقا حتى يكون أمره بيده. وإسقاط الحكم أو نقله تدخل من العبد في سلطان الرب، فكما لا يجوز أن يقول أحد؛ إن شرب الماء جائز لي فأجوزه لفلان، كذلك ليس لأحد أن يقول في عقد جائز كالهبة غير المعوضة: إنه يجوز لي الرجوع في هبتي فأجوزه لغيري، أو يقول: الرجوع جائز لي وأنا أسقطه وأحرمه على نفسي، فإن ذلك تشريع للحكم، وهو محرم كالبدعة في الدين تماما. نعم، لو كان الحكم معلقا على موضوع وكان المكلف داخلا في ذلك الموضوع فله الخروج عنه ليرتفع الحكم، كما لو وقف الرباط على المسافرين وكان هو مسافراً ثم توطن في المحل فيسقط عنه الحكم، لكنه ليس من باب الإسقاط، بل من قبيل تبديل الموضوع وبينهما بون بعيد.
هذا شأن الحكم، وأما الحق ـ لما كانت حقيقته عبارة عن سلطة للإنسان على شيء أو على شخص فمقتضى طبيعته جواز نقله وإسقاطه، لأن المفروض: أن صاحب الحق جعل مالكا للأمر ومسلطا عليه، ومعنى ذلك: أن الأمر بيده يتصرف فيه بما يشاء ما لم يشمله منع من الدين الذي فرض لـه هذا الحق. فهذا يشبه تماما ما يملكه الإنسان من الأرض والمتاع، حيث إن معنى: ملكه لـه أن أمره بيده، فله أن يعمل فيه بما يشاء إلاّ ما ورد النهي عنه؛ مثلاً: للإنسان أن يبيع متاعه ممن يشاء، وليس لـه أن يفسده أو يهدمه عبثاً؛ لأنه إسراف محرم، ولا أن يبيع مثلا ـ سيفه وسلاحه إلى المحارب للدين؛ للنهي عنه، ولأنه خسارة وضرر على الإسلام والمسلمين، أو يبيع المصحف مثلا إلى الكافر؛ للنهي عنه، ولأنه إهانة للمصحف، وله أمثله شتى.
وبالجملة: فالحق بحسب طبيعته يقبل النقل كما يقبل الإسقاط مثل: الملك تماما، فإذا شمله منع فهو لأحد أمرين.
الأول: أن الشارع الحكيم لا حظ مفسدة في النقل أو الإسقاط فحرمه كما عرفت.