@ 378 @ اعلم أولاً أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيء مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر ، فإنا نبينها . وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك ، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام ، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا فإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى ، وقد ذكر شيئاً من صفاته أيضاً في غير هذا الموضع . وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا ، والمذكور في غير هذا الموضع . .
اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له { يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } ووصفه بقوله { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ } إلى قوله { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } . فقوله { يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ } مقول قول محذوف . أي وقلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة . والكتاب : التوارة . أي خذ التوراة بقوة . أي بجد واجتهاد ، وذلك بتفهم المعنى أولاً حتى يفهمه على الوجه الصحيح ، ثم يعمل به من جميع الجهات ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويتأدب بآدابه ، ويتعظ بمواعظه ، إلى غير ذلك من جهات العمل به . وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا : التوارة . وحكى غير واحد عليه الإجماع . وقيل : هو كتاب أنزل على يحيى ، وقيل : هو اسم جنس يشمل الكتب المقدمة . وقيل : هو صحف إبراهيم . والأظهر قول الجمهور : إنه التوراة كما قدمنا . .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ } أي أعطيناه الحكم ، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة ، مرجعها إلى شيء واحد ، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب . أي إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبياً . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } أي الفهم والعلم والجد والعزم ، والاقبال على الخير والإكباب عليه ، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث . قال عبد الله بن المبارك قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال :