وأما الجهة الرابعة وهي الإخبار بالمغيبات فقد اقتفينا أثر من سلفنا ممن عد ذلك من وجوه الإعجاز اعتدادا منا بأنه من دلائل كون القرآن منزلا من عند الله وإن كان ذلك ليس له مزيد تعلق بنظم القرآن ودلالة فصاحته وبلاغته على المعاني العليا ولا هو كثير في القرآن وسيأتي التنبيه على جزئيات هذا النوع في تضاعيف هذا التفسير إن شاء الله . وقد جاء كثير من آيات القرآن بذلك منها قوله ( آلم غلبت الروم ) الآية روى الترمذي في تفسيرها عن ابن عباس قال : كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم لأنهم أهل كتاب فذكره أبو بكر لرسول الله فنزل قوله تعالى ( آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) فخرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة فقال له ناس من قريش أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان فلما كانت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس وأسلم عند ذلك كثير من قريش . وقوله ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) وقوله ( لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ) فما حدث بعد ذلك من المراكب منبأ به في هذه الآية . وقوله ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) نزلت قبل فتح مكة بعامين . وقوله ( لتدخلن المسجد الحرام أن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون ) . وأعلن ذلك الإعجاز بالتحدي به في قوله تعالى في شأن القرآن ( وأن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) إلى قوله ( ولن تفعلوا ) فسجل أنهم لا يفعلون ذلك أبدا وكذلك كان كما بيناه آنفا في الجهة الثالثة .
وكأنك بعد ما قررناه في هذه المقدمة قد صرت قديرا على الحكم فيما اختلف فيه أئمة علم الكلام من إعجاز القرآن للعرب هل كان بما بلغه من منتهى الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وما احتوى عليه من النكت والخصوصيات التي لا تقف بها عدة ويزيدها النظر مع طول الزمان جدة فلا تخطر ببال ناظر من العصور الآتية نكتة أو خصوصية إلا وجد آيات القرآن تتحملها بحيث لا يمكن إيداع ذلك في كلام إلا لعلام الغيوب وهو مذهب المحققين أة كان الإعجاز بصرف الله تعالى مشركي العرب عن الإتيان بمثله وأنه لولا أن الله سلبهم القدرة على ذلك لأمكن أن يأتوا بمثله لأنه مما يدخل تحت مقدور البشر ونسب هذا إلى الحسن الأشعري وهو منقول في شرح التفتزاني على المفتاح عن النظام وطائفة من المعتزلة ويسمى مذهب أهل الصرفة وهو الذي قال به ابن حزم في كتابه في الملل والنحل .
والأول هو الوجه الذي اعتمده أبو بكر الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن وأبطل ما عداه بما لا حاجة إلى التطويل به وعلى اعتباره دون ائمة العرب علم البلاغة وقصدوا من ذلك تقريب إعجاز القرآن على التفصيل دون الاجمال فجاءوا بما يناسب الكامل من دلائل الكمال .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة الفاتحة .
سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة : أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب والسبع المثاني وأم القرآن أو أم الكتاب فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة .
A E