ولقد فتح الأعين إلى فضائل العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله ( لتنذر من كان حيا ) وقوله ( يخرجهم من الظلمات إلى النور ) وقال ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) وقال ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
A E وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة . هذا والشاطبي قال في الموافقات : " إن القرآن لا تحمل معانيه ولا يتأول إلا على ما هو متعارف عند العرب " ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصادا في البحث وإبقاء على نفيس الوقت وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن . وقد بينت نقض كلام الشاطبي في أواخر المقدمة الرابعة . وقد بدت لي حجة لتعلق هذه الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله A في الحديث الصحيح " ما من الأنبياء نبي إلا أوتي أو أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه : الأولى أن قوله ما مثله آمن عليه البشر اقتضى أن كل نبي جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به وأعجز عنه فيؤمنون على مثل تلك المعجزة . ومعنى آمن عليه أي لأجله وعلى شرطه كما تقول على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا الثانية أن قوله وإنما كان الذي أوتيت وحيا اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأولين أفعالا لا أقوالا كقلب العصا وانفجار الماء من الحجر وإبراء الأكمه والأبرص بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر ويتدبره ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله : فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعا لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين على اختلاف قرائحهم فيكون هو أكثر الأنبياء تابعا لا محالة وقد تحقق ذلك لأن المعني بالتابع التابع له في حقائق الدين الحق لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول . ولعل الرجاء متوجه إلى كونه أكثر من جميعهم تابعا أي أكثر أتباعا من أتباع جميع الأنبياء كلهم وقد أغفل بيان وجه التفريع في هذا اللفظ النبوي البليغ .
وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه أي مجموع هذا الكتاب إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة نحو قوله ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .
وإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر : إذ لا قبل لهم بتلك العلوم كما قال الله تعالى ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) وإعجازه لعامة الناس أن تجيء تلك العلوم من رجل نشأ أميا في قوم أميين وإعجازه لأهل الكتاب خاصة إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميا ولا قبل لهم بأن يدعوا أنهم علموه لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدا عن أهل الكتاب الذين كان مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين ولأنه جاء بنسخ دين اليهودية والنصرانية والإنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم فلو كان قد تعلم منهم لأعلنوا ذلك وسجلوا عليه أنه عقهم حق التعليم .
A E