الشيخ محمد محمد المدني
الشيخ محمد محمد المدني
المفتش بالأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
له في مجال التقريب:
إن خير ما يقوى به المسلمون، ويدفع عنهم غوائل أعدائهم، أن يقفوا صفا قويا موحدا في جميع شعوبهم وبلادهم، لا تفسده النزعات، ولا توهنه العصبيات.
وقد شعرنا بأننا ولله الحمد قد أرضينا السواد الأعظم من المؤمنين بالله ورسوله وكتابه، لا فرق في ذلك بين طائفة وطائفة في ربوع آسيا وإفريقيا وأوربا وأميركا، وحيث سرى في مشرق الأرض أو مغرب أو شمال أو جنوب صوت خلفاء بلال يجلجل بشعيرة الإسلام، فما من هؤلاء أحد إلاّ قد أرضاه واثلج صدره واقر عينه.
أن تقوم في القاهرة المغرية مدينة الأزهر جماعة تدعو إلى الوحدة، وتبصر المسلمين بعواقب التفرق، وتجمعهم على أصول دينهم، وأمهات عقائدهم، وتنفي عنهم زيغ الزائفين، وتحريف المعطلين، وغول الظالمين، وقلى القايلين، وتردهم إلى حكم الله ورسوله إذا اختلفوا وتلك سبيل المؤمنين، ذلك بأنهم جميعا قد ذاقوا وبال التفرق في شعوبهم وبلادهم وعلومهم وثقافتهم وسياستهم وثرواتهم وسائر مرافقهم، وأدركوا أن الحرب التي أعلنت عليهم منذ قرون قد طحنتهم أرحاؤها، واغتالتهم اغوالها، وأنها حرب يهم عليهم زين لهم أن يوقدوها ويكونوا وقودها.
ثم رأوا الذين أغروا بينهم مجانبيها مكرا وختلا يقولون أنا منكم ومن خصومات كم براء ﴿كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال أني برئ منك أني أخاف الله رب العالمين﴾ لذلك نظروا إلى جماعة التقريب نظرة من أحاط بهم الحريق إلى جماعة المنقذين واستمعوا إلى صوت «رسالة الإسلام» كأنه صلصلة الاجراس التي توذن بوشك النجاة والخلاص.
وإذا كنت قد قلت: ان هذا هو شعور الأُمة الإسلاميّة كلها، كفرق بين ناطق بالعربية أو بغيرها من اللغات، فلم يكن ذلك إسرافا في ذكر الحقيقة أو تعلقا بجانب من الأمل والخيال، فإن بحوث هذه المجلة تنتقل إلى أهم اللغات التي يتحدث بها المسلمون كالتركية والفارسية والإنجليزية والاوردية، وان أعدادها تصل بانتظام إلى الأندية العلمية والمكتبات وكل ذي رأي من جماعة أو فرد في العالم الإسلامي، وإن الرسالات التي يحملها إليها البريد، أو تتلقاها عن أصحابها دار التقريب شفاها في زياراتهم أو مقابلاتهم لبعض أعضائها لصلات علمية وثيقة بيننا وبين أصحاب الفكر الحر والآراء الناضجة، وأمارات واضحة على حيوية الروح الإسلامي، وعمق إحساسه بما آل إليه الأمر وشدة رغبته في التخلص من آثار الماضي الذليل الضعيف، والتمسك بأسباب متينة تهديه إلى مستقبل قوى عزيز في ظلال الوحدة الدينية، والاخوة الإسلاميّة، تحت راية القرآن الكريم.
ولقد ترى فيما يجيئنا من تلك الرسالات أو ينقل إلينا من أخبار المجالس العلمية واندية الرأي، خلافا على بعض ما نرى، أو نقد يصل أحيانا إلى حدّ يشبه اللوم، ولسنا نضيق بشيء من ذلك ذرعا، ولا نألم له، ولا يساورنا ضيق أو تردد حين نظهر عليه، فانّا لنعلم أن الأفكار الصالحة لابد أن تجد في أول أمرها مقاومة، ولعلها أن تشمئز منها بعض القلوب، ولو كنا نقدر أن فكرتنا ستجد من الناس إجماعا حتّى لا يشغب عليها شاغب ولا ينعب عليها ناعب، ولا يمحصها عقل مجرب، ولا تختلف فيها موازين النقد، ومقاييس الرأي ولا تنوشها بين ذلك سهام وسهام، لكننا عن سنة الله في الحياة غافلين. أو لو كان زعمنا أن هذه الأُمة في حاجة إلى إصلاح؟ عليها ولا تفتقر إلى إنذار وتبشير، فنحن نأخذ من ردّ الفعل الذي تسجله (دار التقريب) لنا أو علينا في أية صورة من الصور دليلا على وجوب الجهاد، ومعاذ الله أن نكون مجاهدين في غير عدو أو منازلين الأوهام حيث يعدان، فليعلم الناس إننا بعرض استقبال عدو قبل أن نكون بعرض استقبال صديق فإن الداء عصي والعدو قوي وان اخطر الأمراض وأحقها بالعلاج ما خيل للمريض انه السلامة والصحة، وان افتك الأعداء عدو مخاتل يأتيك في ثياب صديق، فالمهم عونك وتوفيقك وهدايتك، واللهم صبراً وتثبيتا ونصيرا.
إن في موسم الحج لمن شهده لعبرا، فهؤلاء المسلمون يقطعون الفيافي والقفار ويتركون الأهل والديار، ويقصدون إلى هذه المناسك ـ المتفق عليها ـ من كل فجّ عميق ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم وانهم ليطوفون جميعا حول بيت واحد، وتجمعهم بين يدي الله ساحة واحدة في وقت واحد ويبيتون ليالي في بلدة واحدة مجتمعين لا يعرف أحدهم بجانب أخيه إلاّ أنّه مسلم خاضع لله، ملتمس رحمة الله ورضوان الله فلا السني يومئذ يذكر سنيته، ولا الشيعي يذكر شيعيته، ولا يحضرهم خلاف ولا يفرق بينهم رأي ولا تفسد جماعتهم عصبية ولا يذكرون إلاّ أخوة الإيمان، وشريعة القرآن، ونبوة خير الأنام.
فلو رأيت الشامي والعراقي بجانب المصري، أو الفارسي بجانب التركي أو الجاوي، أو النجدي والحجازي بجانب الهندي، لراية لبنات من الأُمة الإسلاميّة تكمن فيها القوة، وتربطها رابطة الدين على اختلاف الألسنة، وتنوع الأمزجة ؟، وإنّما فرقهم وباعد بينهم العدو الذي تقاسمهم وحال بينهم وبين إخوانهم وصور لهم هوة عميقة من الخلاف تفصل بين شعوبهم وأجناسهم ومذاهبهم، كانما هم أرباب نحل واتباع أديان، فكيف ساغ لهم أن يقتربوا ثم يحترموا، وكيف ينسون هذه العروة الوثقى بينهم إذا رجعوا إلى قومهم وقد شرع الله لهم الصلوات في كل يوم خمس مرات، يهتفون فيها بهتاف واحد ويتوجهون فيها شطر هذه القبلة الواحدة حينما يكونون ؟ أما ورب البيت أن هذا الشيء عجيب (1).
إن كلا من الاتفاق والاختلاف أمر لازم لا مناص منه، فلا يمكننا أن نتصور المسلمين أو أيّة أمّة من الأمم متفقين في كل شيء ولا نتصور هؤلاء وأولئك مختلفين في كل شيء، ولكن الذي هو واقع فعلا، ولا مناص من أن يقع، هو أن الأُمة الواحدة ولها مواضع كثيرة تتفق عليها، وهي التي ربطت بينها وجعلتها أمة واحدة، ولها مع ذلك مواضع كثيرة تختلف فيها لاختلاف العقول والمصالح والأدلة بينها، وهي بحكم اتفاقها فيما اتفقت فيه أمة واحد، وبحكم اختلافها فيما اختلفت فيه مذاهب متعددة، والمذهبية الخاصة لا تخرج أهلها عن كونهم من الأُمة، ولا تعطيهم في نفس الوقت قربا أو نسبة في القرب من الدين ليست لأصحاب مذهب أخر، ومن ثم لا يستطيع أن يقول: أن مذهبي حق كله وصواب كله، ومذهب غيري باطل كله وخطأ كله، ولكن يقول: أن هذا هو ما رايته بحسب فهمي واجتهادي وما علمته، فأنا أرجحه ولا اقطع به، ويحتمل أن يكون ما رآه غيري هو الحق والصواب، ولست مكلفا إلاّ بما وصلت إليه، وليس مخالفي مكلفا إلاّ بما وصل هو أيضاً إليه) (2).
وأما استقامة هذا المنهج من الناحية الإسلاميّة، فلأن المسلمين أمة واحدة لا ينبغي التفريق بينهم، بل ينبغي أن ينظر كل فريق منهم إلى الفريق الآخر على انهم جميعا اخوة متعاونون على معرفة الحق، والعمل به.
ولا يستقيم ذلك إلاّ إذا كان أهل القبلة جميعا، وأهل الدين الواحد، والأصول المشتركة، أحرارا في الإدلاء بآرائهم ما دامت في الدائرة الإسلاميّة، وقد قلنا من قبل: أنه لا فرق بين السنة والإمامية والزيدية في اصل جوهري من أصول الإيمان (3).
__________________________________
1 ـ رسالة الإسلام 1: 170 ـ 379 ـ 3: 51 ـ و8: 172، 287، 405 ـ و 9: 67 ـ 310 ـ 421 ـ و 10 ـ 412.
1 ـ نحو الوحدة الإسلاميّة: 65 ـ 66.
2 ـ نحو الوحدة السلامية: 65 ـ 66.
لم نعثر لحد الآن على ترجمته...