الشيخ محمد عرفة
الشيخ محمد عرفة
عضو جماعة كبار العلماء
( 1392 هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم
خدم الشيخ محمد عرفة الثقافة في الأزهر مدة طويلة ومنذ عام 1930م اختير أستاذا للشريعة الإسلاميّة بكلية الشريعة، ثم وكيلا للكلية ثم عضوا في هيئة كبار العلماء التي الفت لنشر الدعوة في سبيل الله ولمقاومة التبشير، ثم اختير أستاذا للفلسفة بكلية اللغة العربية، ثم أستاذا للبلاغة في تخصص الأستاذية بالكلية نفسها ثم اختير مديرا للوعظ عام 1946 م وانعم عليه بكسوة التشريف العلمية من الدرجة الأولى ثم اختيرا مديرا لمجلة الأزهر ثم أستاذا ذكرى في كليات الأزهر الشريف.
وله كثير من المؤلفات والبحوث الذائعة: «نقض مطاعن في القرآن الكريم» «مؤلف في تفسير آيات الأحكام» «السر في انتشار الإسلام» «النحو والنحاة» الذي منح به عضوية جماعة كبار العلماء وأخر كتاب له «مشكلة اللغة العربية» هذا إلى كثير من البحوث والمحاضرات والمقالات والأستاذ «عرفة بحق عالم متضلع وباحث دقيق، ومفكر واسع التفكير كثير الإحاطة بآثار القدامى وشتى الثقافات الحديثة. وهو من صفوة العلماء الذين يفخر بهم الأزهر ويعتز بمهادهم العلمي ومكانتهم العلمية الكبيرة ويجمع إلى ذلك كله التواضع والنبل وعظمة الخلق وجلال العلماء ووقار المرشدين (1).
______________________________
1 ـ الأزهر في ألف عام 3: 161.
له في مجال التقريب بحوث كثير في رسالة الإسلام:
هل من شك في أن اعظم نعمة امتن الله بها على المسلمين هي الالفة بعد المعرفة، والمحبة بعد العداوة، كما قال: ﴿واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا﴾ وكما قال: ﴿هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما الفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم﴾.
وهل من شكّ في انّ الله يبغض من المسلمين الخلاف والفرقة، والتباين والبغضة، وهل من خلاف في أن الله قال: ﴿ان الذين فرقوا دينه وكانوا شيعا لست منهم في شيءٍ إنّما أمرهم إلى الله ثم ينبأهم بما كانوا يفعلون﴾ و انه قرن الفرقة بالرجم والخسف في الوعيد فقال: ﴿قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم باس بعض﴾ كل ذلك لاشك فيه، وهو من البديهيات المعلومة من الدين ضرورة ومع ذلك ليس في شك أيضاً في أن واقع المسلمين ليس كذلك، ففيهم الفرق المختلفة، والشيع المتباينة، وقد جرَّ ذلك إلى التناحر والتباغض والى أن يذوق بعضهم باس بعض، ففيهم السني والشيعي والخارجي والمعتزلي إلى ما شاء الله من هذه الفرق، وفيهم مالا يحيط به إلاّ الله من الحقد والبغض والحسد وكراهية بعضهم لبعض، كان ليس من مباديء دينهم القطعية ما ذكرنا، بل كان من مباديء دينهم الفرقة الخلاف، وكان منها النزاع والفشل وكأنها أصول فيه ليس لها مرونة وليس منها محيص ومن المعلوم إن هذه الفروض الاجتماعية التي منها حب المسلمين بعضهم بعضا وتعاونهم وتناصرهم، ليست فروضا يدعو إليها الدين تعبدا بل هي فروض يدعو إليها الدين لان مصلحة المسلمين الدنيوية تدعو إليها، ولان بقاءهم وقوتهم وعزتهم منوطة بها فكل أمة من امم الإسلام وحدها ضعيفة ولكنها بتعاونها مع غيرها من الأمم الإسلاميّة تقوى وتعز وقد قيل «ضعيفان يغلبان قويا».
كذلك ليست المحرمات الاجتماعية التي ينهى عنها الدين ـ ومن اشدها تباغض المسلمين وتفرقهم وتنازعهم ـ إلاّ مفاسد كبرى يريد الدين منهم أن يدرّووها عن أنفسهم، فليس يصعت المسلمين ويفت في عضدهم مثل التباغض والتناحر والتفرق بينهم لذلك لا اعلم فروضا في الإسلام أقوى ولا أكد ولا اعم فائدة ولا اعظم جدوى من هذه الفروض التي هي المحبة والتعاون والتناصر بين المسلمين، ولا اعلم كبائر اعظم ضررا، ولا اشد نكرا، ولا ادعى لمحق المسلمين وزوالهم من هذه الكبائر التي ذكرنا من تباغضهم وتخاذلهم وفرقتهم وانقسامهم، ولا اعلم فروضا أهملت مع عظم خطرها كما أهملت هذه الفروض. أهملها العلماء فتركوها في زوايا الكتب ولم يسلطوا عليها الأضواء كما سلطوها على ما هو اقل منها شانا، وان الحيض والنفاس ومسائل المتحيرة لقد أخذت من العناية اكثر مما أخذت هذه الفروض.
إن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يبلغ بالمسلمين ما بلغوه من محبة وتضامن وتناصر حتّى كان هجيراه تسليط الأضواء على هذه الفضائل فكان يقول «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله ولا يحقره، يحسب امرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه وكان يقول: ﴿لا يؤمن أحدكم حتّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ وكان يرتب الفضائل درجات ويجعل هذه الفضيلة في الذروة ونحن نريد أن نبلغ من التعاون والقوة ما بلغوه ولما نعن بهذه الفضائل كما عنوا بها.
إن فروضا هذا شانها كان ينبغي أن تؤخذ بقوة وان تلقن للصبيان مع البن وان يعلموها في مدارس المرحلة الأولى وبقية المراحل، وان يكون لها شان لا يقل عن شان أركان الإسلام الخمسة، وان يكون في ذكر كل مسلم قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ: (لا يؤمن أحدكم حتّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وان يحذر كل مؤمن فوات الإيمان إن ابغض أخاه المسلم أو ابغض مصلحته، وكان يجب على علماء الإسلام أن يقفوا محافظين على محبة المسلمين بعضهم بعضا ووحدتهم وتعاونهم ولكنني لم ار فرضا اعظم نفعا ضيع كما ضيعت هذه الفروض، ولم ار حراما اعظم ضررا ارتكب كما ارتكب المسلمون اضدادها، بل أني أوشك أن أقول أن علماء كل فرقة كان لهم نصيب في توسيع هوة الخلاف بذلك الجدل الجاف الذي يحركونه حول مذاهبهم، وان الامام العالم منهم لتبدو منه الكلمة عامة تزرع الأحقاد، وتربي الإحن يقول الزمخشري في تفسيره عند الكلام على رؤية الله في الاشعرية:
وجـمـاعـة سـمـوا هـواهـم سنـة *** لـجـمـاعـة حـمـر لـعمري موكفة
قـد شـبـهـوه بـخـلقـه فـتـخوفـوا *** شـنـع الـورى فـتـسـتروا بـالـبلكفة
وليست الاشعرية في كتبهم بأحسن مجاملة للمعتزلة ولاباعف لفظا وهكذا بقية الفرق فلا عجب إذا حملنا علماء كل فرقة نصيبا مما كان عن فرقة بين المسلمين.
وهكذا ترك علماء المذاهب الخلاف والفرقة والبغضاء تدب إلى المسلمين دون أن يعملوا على إزالتها، ودون أن يعالجوها مع انهم كانوا يرون أن عواقب ذلك مخيفة محزنة. وهذا التاريخ يروي أن الخلاف ـ حتّى بين اتباع المذاهب الأربعة الفقهية ـ كان له اثر سيء مع انه من أهون الخلافات لأنه خلاف في الفروع العلمية لا غير. يذكر التاريخ أن الحنابلة من أهل جيلان كانوا إذا دخل إليهم حنفي قتلوه وجعلوا ماله فيئا حُكَمَهم في الكفار، ويذكر أن بعض بلاد ما وراء النهر من بلاد الحنفية كان فيه مسجد واحد للشافعية وكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد فيقول: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق، فلم يزل كذلك حتّى اصبح يوما وقد سُدَّ باب ذلك المسجد بالطين واللبن، فأعجب الوالي ذلك، وقد شاع أن المالكية يقولون أن الشافعي غلام مالك والشافعية يقولون: احمد بن حنبل غلام الشافعي والحنابلة يقولون: الشافعي غلام احمد بن حنبل والحنفية يقولون الشافعي غلام أبي حنيفة لأنه غلام محمد بن الحسن ومحمد غلام أبي حنيفة، وقالوا: لولا أن الشافعي من اتباع أبي حنيفة لما رضينا أن ننصب معه خلافا، وقد صنف حنفي مناقب أبي حنيفة فافتخر فيها باتباعه كأبي يوسف ومحمد وابن المبارك، ثم انشد يعرّض بباقي المذاهب:
(أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع)
وهذا كدعوى الجاهلية والشافعية يطعنون بأن أبا حنيفة من الموالي وليس من أئمة الحديث، والحنفية يطعنون في نسب الشافعي وانه ليس قرشيا ولا إماما في الحديث لأن البخاري ومسلما أدركاه ولم يرويا عنه، مع انهما لم يدركا إماما إلاّ رويا عنه ناهيك بالأحاديث التي وضعت في مدح أئمتهم وذم الآخرين كما روى الحنفية: (يكون من أمتي رجل يقال له النعمان هو سراج أمتي، ويكون فيهم رجل يقال له محمد بن إدريس، هو اضر على أمتي من إبليس) هذا قليل من كثير مما قاله فقهاء مذاهب السنة، فكيف إذا عرضنا لما وقع بين السنة والشيعة وما وقع بين أصحاب المذاهب الكلامية. ولا تزال آثاره السيئة تعمل عملها في المسلمين إلى الآن.
هذه حال يجب أن يطب لها العلماء وهي لا تحتملها روح العصر ولا مصلحة المسلمين، إن الأمم تسعى للاجتماع والتضامن وتلتمس لذلك أوهى الأسباب من لغة وإقليم واتحاد في الثقافة أو في المصلحة. والمسلمون أولى بذلك لأن بينهم أواصر كثيرة تدعو إلى الوحدة والاجتماع وأعظمها الدين والمسلمون أولى بذلك لأنهم ضعاف والضعيف أحوج إلى أن يشد أزره بأخيه:
أن القـداح إذا اجـتـمـعـت فـرامها *** بـالكـسر ذو جـفـن وبـطـش أيـّد
عـزت فـلم تـكـسـر وان هـي بُـدّدت *** فـالكـسر والتوهين للمتبدد
والمسلمون أولى بذلك فقد تداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها والمسلمون أولى بذلك لأن الله وهبهم أرضا ذات خيرات وغيره وهي محط أطماع دول الأرض ولا يحافظون عليها إلاّ بالقوة، والاتحاد من أهم أسباب القوة (1).
________________________________
1 ـ رسالة الإسلام 7: 29، 379 و8: 43، 143، 253، 370 و9: 25، 135،247 و10: 251 و11: 32، 141، 255 و12:28، 135، 251.