الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء

الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء

 

الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء
1294 هـ ـ 1373 هـ
 

 


 

بسم الله الرحمن الرحيم

هو الشيخ محمد الحسين بن العلامة الشيخ علي بن الحجة الشيخ محمد رضا بن المصلح بين الدولتين الشيخ الأفقه الشيخ موسى بن الشيخ الأكبر الشيخ جعفر بن العلامة الشيخ خضر بن يحيى بن سيف الدين المالكي الجناجي النجفي.
اشهر مشاهير علماء الإسلام في الشرق وأبعدهم صيتا وأغزرهم علماً في العالم الإسلامي، بل هو من عظماء المجتمع الإنساني وكبراء العالم البشري ومن الشخصيات الأفذاذ وأكابر شيوخ الإسلام وأعاظم فقهاء الشيعة الأعلام وأحد أركان الدين المجددين ورواد النهضة ودعاة الإصلاح، ورث زعامة الدين عن آبائه الفطاحل واجتمع فيه خصال الكمال والفضائل وقام بالأعمال الجلائل.
كان فقيها قوّي الحجة والبرهان مجتهدا في المباني لا مقلدا في المبنى واسع الاطلاع حرّا في آرائه ونظرياته، كان ينتزع كثيراً من الفروع من ذوق عربي سليم قد ارتكز على فهم نصوص الأخبار والروايات التي يبتني عليها المذهب الجعفري ويمتاز بالجرأة في إبداء الرأي الذي يراه قد ارتكز في الحجة وسانده العقل، في حين أن خصومه الذين قد وقفوا له بالمرصاد وكانوا لا يستطيعون مقاومته أو رأيه، وكتابه (تحرير المجلة) من أهم آثاره دليل على تضلعه في الفقه وجلالة مؤلفه وعظمته في مقام الاستنباط وهو من الكتب الممتعة ومن نفائس الآثار المترشحة من قلم المترجم.
وهذا نموذج من استحضاره العلمي القاء محاضرة ارتجالية على البعثة المصرية والتي سجلها الأستاذ صالح الجعفري في «مجلة العرفان ج 3 / 308» عند مجيء البعثة المصرية المولفة من الأستاذ احمد أمين وجماعته إلى النجف في رمضان عام (1349 هـ) وقد زار الوفد المترجم في داره واليك ما دار بينهم من المناظرات والأسئلة لتقف على المواهب العالية وكيف يخص الله تعالى بعض عباده بها.
قال سماحته لأحمد أمين: من العسير أن يلم بأحوال النجف واوضاعها ـ وهي تلك المدينة العلمية المهمة ـ شخص لا يلبث فيها اكثر من سواد ليلة واحدة فأني قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة ومكثت فيها مدة ثلاثة اشهر متجولا في بلدانها باحثا ومنقبا، ثم فارقتها وأنا لا اعرف من أوضاعها شيئا اللهم إلاّ القليل ضمنته أبياتا أتذكر منها:
تـبـزغ شـمـــس الـعـلـي ولـكـن *** مـــن افــقـهـا ذلـك الـبــزوغ
ومــثـلـمـا تـبـغ الـبـرايـــــا *** كـــذا لـبـلـدانـهـا نـــبــوغ
اكـــثـر شـــيء يــروج فـيـهـا *** الــلـهـو والـزهـو و(الـنــزوغ)

فضحكوا من كلمة (النزوغ) وقال الأستاذ احمد أمين: مخاطبا الشيخ: قلتم هذا قبل عشرين سنة؟
نعم، وقبل أن ينبغ (طه حسين) ويزغ (سلامة موسى) ويزغ (فجر الإسلام) وقد ضمنته (مخاطبا احمد أمين) من التلفيقات عن مذهب الشيعة ما لا يحسن بالباحث المورخ اتباعه.
احمد أمين: ولكن ذنب الشيعة أنفسهم إذا لم يتصدروا إلى نشر حقيقة مذهبهم في الكتب والصحف ليطلع العالم عليه.
الشيخ: هذا كسابقه.. فإن كتب الشيعة مطبوعة ومبذولة اكثر من كتب أي مذهب آخر وبينها ما هو مطبوع في مصر وما هو مطبوع في سوريا عدا ما هو مطبوع في الهند وفارس والعراق وغيرها، هذا فضلاً عما يلزم للمؤرخ من طلب الأشياء من مصادرها.
أحمد أمين: حسنا سنجهد في أن نتدارك مافات في الجزء الثاني.
أحمد أمين: هل يسمح لنا العلامة في بيان العلوم التي تقرؤوها؟
الشيخ:هي علوم النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والحكمة والكلام وأصول الفقه وغيرها.
أحمد أمين: ما هي كيفية التدريس عندكم؟
الشيخ التدريس عندنا على قسمين:
1 ـ سطحي: وهو أن يفتح التلميذ كتابا من كتب العلوم المتقدمة بين يدي أستاذه فيقرأ له هذا عبارة الكتاب ويفهمها التلميذ، وقد يعلق عليها ويورد ويعترض ويشكل ويحل وغير ذلك مما يتعلق بها.
2 ـ خارج: وذلك أن يحضر عدة تلاميذ بين يدي الأستاذ فيلقي عليهم الأستاذ محاضرة تخص العلم الذي اجتمعوا ليدرسوه ويكن هذا غالبا في علوم الفقه والأصول والحكمة والكلام، مع ملاحظة أن التلميذ بكلا القسمين يكون ذا حرية في إبداء آرائه واعتراضاته وغيرها.
احمد أمين: أن البعثة تود أن تسمع لبحثكم فهل أنتهم فاعلون؟
الشيخ يجيب طلب البعثة بالقبول فيرقى المنبر ويجتمع حوله من حضر الجلسة من تلاميذه ونظرا إلى أن الشيخ على غير سابقة عهد وعلى غير تهيئة وتمهيد لنوع العلم الذي سيبحث فيه، لهذا تركوا له الحرية في اختيار العلم ومن أجل هذا يرى القاريء البحث الآتي ذا فصلين: فقه وأصول. وعقائد. كما كانت رغبتهم وهنا ابتدأ سماحته مرتجلا فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى ﴿ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن﴾ تشتمل هذه الآية على عقدين: عقد سلب، وعقد إيجاب، أما عقد السلب:﴿ولا تقربوا مال اليتيم﴾ فهو من الأساليب القرآنية التي اخترعها وارتجلها في الاستعمالات العربية ولم تكن معروفة من ذي قبل وقد تكررت هذه الجملة في الكتاب الكريم، وهي تارة تتعلق بالأفعال مثل قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن﴾ وقوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا﴾ وقوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى﴾ ويكون المراد منها حينئذ على سبيل استعارة بالكناية المبالغة في التحذير عن ارتكاب ذلك الفعل. والزنا والصلاة مع السكر أو غير ذلك.. وشبه اسم المعنى. باسم العين فحذر من قربه فكيف بملاصقته أو الدخول فيه.
وأخرى تتعلق بالأعيان مثل قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا هذه الشجرة﴾ وقوله تعالى: ﴿إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام﴾ ومن هذا القبيل آية العنوان التي هي من براعة الصنعة وإبداع البيان بمكان، حيث أن النهي لا يتعلق بالأعيان رأساً بل لابد من توسيط فعل مقدر من البين يناسب تلك العين، فإذا قيل: حرمت أمهاتكم عليكم يعني العقد عليهن، وإذا قيل: حرمت الخمر يعني شربها، وإذا قيل: حرم الميسر والقمار يعني اللعب بهما، وهكذا يقدر في كل مكان ما يناسبه بل ظهر ما يتعلق به من الأفعال التي تطلب من تلك العين ومما هي معدة له فلا يراد من قول: حرمت الخمر حرمة كل الأفعال التي يمكن أن يتعلق بها فيحرم لمسها أو النظر إليها أو التداوي بها وهكذا.. كلا، بل ليس المراد إلاّ حرمة شربها، وعليه فيكون المراد والمعنى بالآية التي في العنوان: لا تتصرفوا في مال اليتيم التصرفات المطلوبة عند العقلاء من المال، التجارة في بيع أو شراء أو صلح أو رهن أو إدانة أو غير ذلك.
والغرض أيضاً بهذا النحو من البيان شدة التحذير والنهي عن التصرف في مال اليتيم بحيث يكون المعنى والمقصود، النهي عن المعاملة بمال اليتيم بوجه مطلق من رفع أو وضع أو فعل أو ترك إلاّ بالتي هي احسن، وحيث لا تريدون التصرف فلا شيء عليكم وان كان التصرف احسن بخلافه على الوجه الثاني فانّ مفاده لزوم التصرف بالأحسن يؤيد الحكم الضروري من حرمة التصرف بمال الغير مطلقا صغيرا أو كبير بغير إذنه، وليس هو المقصود أصالة بالبيان بالضرورة وإنّما المقصود عقد الإيجاب وهو إعطاء الرخصة بالتصرف في مال اليتيم إذا كان في التصرف مصلحة فيكون مخصصا لما دلّ على عموم حرمة التصرف في مال الغير. إنّما الكلام في مقدار تلك الرخصة وحدودها حسبما يستفاد من الآية، فانّ محور البحث والنظر يدور من هذه الجهة على تشخيص المراد من لفظ: (الأحسن) وهل هو من أفعال التفضيل؟ نظير: الصلاة خير من النوم. أو صفة مشبهة نظير: النوم خير من الله، وعلى الأول فهل المراد الأحسن بقول مطلق أي مالا احسن منه، أو الأحسن نسبيا أي الأحسن من تركه وان كان غيره احسن منه؟ و على الثاني فهل المراد منه ما اشتمل على مصلحة ؟ أو يكفي خلوه عن المفسدة ؟ بناءاً على أن كل ما ليس محرم فهو حسن.
ثم لما انتهى الكلام إلى هذا المقام طلب بعض الحضور تغيير الموضوع ونقل البحث إلى مسألة من المسائل الاعتقادية وأساسيات أصول الدين. فأوصل سماحته الكلام اقتضابا من غير روية ولا تمهل، ونقل البحث إلى مسالة الحاجة إلى الأنبياء وضرورة البعثة فقال:
إن النظر في عامة أحوال البشر يعطي ان أعرف صفاته والصقها فيه وأقدمها عهدا به هي الخلال الثلاث التي لا يجد عنه محيصا ولا منها مناصا مهما كان. الا وهي الجهل، والعجز، والحاجة، وهذه الصفات هي منبع شقائه واصل بلائه وكلما توغل الإنسان في العلم والمعرفة تطامن للاعتراف بما توصل إليه من العلم بعظيم جهله. وان نسبة معلوماته إلى مجلهولاته نسبة القطرة إلى المحيط وكان اكبر علمه جهله البسيط ، وقد سُأل أفلاطون حين اشرف على الرحلة الأبدية عن الدنيا فقال: (ما أقول في دار جئتها مضطرا. وها انا اخرج منها مكرها، وقد عشت فيها متحيرا، ولم استفد فيها من علمي سوى انني لا اعلم ). وقال ( سولون الحكيم): ليس من فضيلة العلم سوى علمي بأني لا اعلم. ومن استقصى كلمات حكماء اليونان وغيرهم وجد لكل واحد منهم مثل هذه الكلمات والتشبع بهذه الروح السارية إلى متضلع في الفضيلة متشبع بروح الفضيلة من علماء الإسلام وحكمائهم. حتّى قال الشافعي :
وإذا مــا ازددت عــلـمــــا  ***  زادنـي عـــلـمـا بــــجـهـلـي
والرازي يقول:
نـهـايـة إدراك الـعـقول عـقــال ***  وغــاية ســعـي الـعـالـميـن ضـلال
ولـم نـستـفـد من بحثـنا طول عـمـرنا ***  ســوى أن جــمـعـنا فيه قيل وقال.

حين أن علماء الغرب وكبار المخترعين الذين حوروا الدنيا إلى هذا الشكل العجيب يعترفون بعدم وصولهم إلى حقائق الأشياء، فهم وان اخترعوا الكهرباء، لا يعرفون حقيقتها، هذا فضلاً عن الروح والنفس والحياة وهذا مجال لا يأتي عليه الحصر، فالإنسان غريق بالجهل لصيق بالعجز والحاجة. ولاشقاء ولا بلية إلاّ وهي منبعثة إليه من ذلك، وعقول البشر بالضرورة غير كافية لرأب هذا الصدع، ونأي هذا الثلم، وسد هذا العوز، فالعناية الأزلية التي أوجدت هذه الخليقة لو تركتها على هذه الصفة تكون قد أساءت إليها بإيجادها وما أحسنت الصنيع بنعمة الوجود عليها، ولكان الأحرى لو تركتها في طوامير العدم، واطمار الفناء، ويكون ذلك نقضا للحكمة وإفساد للنعمة.
إذا فلابد من إيجاد رجال كاملين في أنفسهم مكملين لغيرهم يكونون كحلقة الاتصال بين الخالق والمخلوق، وهمزة الوصل بين العبد والربّ، فإن السعادة منه واليه، وأولئك هم السفراء والأنبياء الذين بهم تتم الحجة وتستبين المحجة. وحينئذ تكون سعادة كل إنسان وشقاؤه باختياره قال تعالى ﴿وهديناه النجدين﴾ وقال: ﴿انا هديناه السبيل أما شاكرا وأما كفورا﴾ وتكون حينئذ لله على الناس الحجة البالغة. نعم وكل هذا موقوف على إثبات الصانع الحكيم المنزه عن العبث والظلم فضلاً عن الجهل والعجز. وهناك أدلى الشيخ وأملى أصول البرهنة على وجود الإله تعالى الحق بعدة قواعد لا يساعدنا ضيق المجال لسردها وعدها تفصيلا، ولكن نكتفي بالإشارة إليها على وجه الإجمال:
1 ـ قاعدة: (إن ما بالعرض لابد وان ينتهي إلى ما بالذات).
2 ـ إن معطي الشيء لا يكون فاقده.
3 ـ إن الصدفة في النواميس الدائمة الكلية والأشياء المتكررة مستحيلة.
4 ـ إمكان الأشراف.
5 ـ قاعدة اللطف.
ومثال ذلك من أمهات قواعد الحكمة وأصول الفلسفة الحقة، ثم ارتأى في هذا المقام أن يختم البحث لضيق الوقت وهكذا كان وعندما نزل الشيخ من المنبر دارت بينه وبين أحمد أمين الأحاديث الآتية:
احمد أمين: هل الاجتهاد عند الشيعة مطلق أو مقيد. يريد بذلك هل هو اجتهاد (في الكتاب والسنة والإجماع والعقل) ومنه القياس عندهم، أو هو اجتهاد في فتاوى الأئمة المعروفين كاجتهاد العلماء الذين بعدهم في كلمتهم وعلى الأصول المقررة عندهم فيكون المجتهد مقيدا بطريقة ذلك الامام من حنفي أو شافعي أو غيرهما.
وهذا جواب الشيخ: الاجتهاد عندنا مطلق يستنبط كل مجتهد الأحكام الشرعية من نفس الكتاب والسنة غير مقيد بكلام مجتهد آخر مهما كان، ولكن على أصول وقواعد مقررة عند الجميع، وهي القواعد التي يتكفل بها علم أصول الفقه وهذه القواعد بعضها متفق عليه عند الجميع وبعضها أيضاً موضع نظر واختلاف فتكون اجتهادية أيضاً ولكل مجتهد فيها رأيه الخاص الذي يبرهن ويبني عليه طريقة الاستنباط.
احمد أمين: ما هي الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد عندكم.
الشيخ: هي الكتاب والسنة، والسنة نعني بها الأخبار الواردة عن المعصومين.
احمد أمين: هل هناك شيء يعارضها ويتقدم عليها؟
الشيخ: كلا لا يعارضها شيء، ولا نرفع اليد عن الخبر الصحيح المعتبر إلاّ إذا كان مصادما لضرورة العقل الفطري، كما لو ورد خبر بجواز شهادة مؤمن لأخيه المؤمن في دعوى يدعيها على الغير مع عدم علم الشاهد بتلك الدعوى وإن كان عالما بأن ذاك المدعي لا يدعي باطلا، فإن مثل ذلك الخبر لا نعمل به مهما كان.
أحمد أمين: هل يوجد تعارض في أخبار الأئمة.
الشيخ: نعم.
أحمد أمين: كيف يتناقض كلامهم مع إنكم تشترطون فيهم العصمة؟
الشيخ: لا تناقض في الجوهر وإنّما التناقض في الأخبار الواردة عنهم أو في ظواهر كلماتهم، أما في الحقيقة لا تعارض ولا تناقض، وإنما هو اختلاف في ظاهر الكلام كالاختلاف الذي يوجد في ظاهر الكتاب الشريف وهو القرآن العزيز قال تعالى: ﴿فيومئذٍ لا يسال عن ذنبه انس ولا جان﴾ وقال عز شانه: ﴿وقفوهم انهم مسؤولون﴾ ولكل وجهة وخاصة، على الجملة فحال السنة والأخبار كحال الكتاب الكريم فيه النص والظاهر، والمجمل والمبين. والمطلق والمقيد، والعام والخاص. والحكم الواقعي والحكم الظاهري. والأحكام الموقتة التي تقضيها الأوقات والظروف والأحوال والحوادث الزمنية، ويقابلها الأحكام المؤبدة التي لا تتغير بتغيير الأحوال وتبدل الزمان.
ووظيفة المجتهد الفقيه البالغ تلك المرتبة السامية والملكة الراسخة هي تمييز بعضها عن بعض، والجمع بين متعارضاتها ورد بعضها إلى بعض واستخراج العلل والأسباب التي أوجبت ذلك التعارض. والتناقض الواقعي حسب الحقيقة والجوهر فهو مستحيل عندنا بعد البناء على عصمة الأئمة.
أحمد أمين: ما الدليل على عصمة الأئمة؟
الشيخ: حكم العقل الضروري.
فهش واستبشر وكان طلب من الشيخ البيان والإيضاح فقال: انه بسيط جدا وأنا سائلك: ما الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب؟
احمد أمين: الهداية والإرشاد والتهذيب.
الشيخ: إذن فهل يحصل الإرشاد من شخص يقول: لا تكذب وهو يكذب، ولا تشرب الخمر وهو يشرب الخمر، ولا تزن وهو يرتكب الزنا، وهل يحصل الغرض وتتم الفائدة من الهداية من شخص يجوز عليه الغلط والغفلة والنسيان والاشتباه؟ ولاشك في أن الجواب بالسلب. وإذا كان إرسال الرسل وبعث الأنبياء واجبا بالحكمة حسب العناية الأزلية، فالعصمة أشد لزوما وأقوى وجوبا، وإلا بطل الغرض وماتت الفائدة وانتقضت الحكمة.
احمد أمين: ما الدليل على انفتاح باب الاجتهاد عندكم؟
الشيخ: ما الدليل على انسداده؟! وأية آية أو خبر تدل على الحجر على العقول والضغط على الأفكار وسلب هذه الحرية الفكرية التي منحها الله تعالى لعباده، وكانت افضل نعمه على خلقه، غاية ما هناك أن الله سبحانه وتعالى رافة بالعباد ورفعا لمشقة الاجتهاد ورعاية لحفظ نظام الهيئة الاجتماعية ووجوب قيام كل طائفة لشأن من الشؤون الضرورية، فتتوزع الأعمال وتتبادل المنافع لذلك كله رفع وجوب الاجتهاد عن كل فرد من المكلفين وأطلق لهم السراح في ذلك فجعل وجوبه كفائيا وأجاز رجوع العامة إلى المجتهدين وتقليدهم في أمور الدين.
أما من أنفت نفسه وسمت همّته عن خطة التقليد وخطة الاتباع، وأراد أن يأخذ الحكم من دليله على قواعد الفن والصناعة فأي دليل على منعه وحجر ذلك عليه ؟ وهل نجد عاقلا في الدنيا يمنع على العلم ويأمر بالجهل؟ وأن مذهبا يكون الحكم من دعائمه وقواعده أحرى بان يسمى مذهب الجهالة والتضليل، ومن آراء العصور المظلمة وبقايا أديان الجاهلية والاستبداد هذا، أما دين الإسلام فهو أرفع وانصع من ذلك، ولو لم يكن دليل على شرف مذهب الشيعة وصحة قواعده وأصوله إلاّ هذا لكفى.
انتهى كلام الشيخ مع احمد أمين.
له في مجال التقريب أبحاث كثيرة ومناظرات ومساجلات اقتطفنا منها سطورا:
إذا كان الغرض هو إزالة الخلاف بين المذاهب الإسلاميّة، وجعلها مذهبا واحد سنيا فقط أو شيعيا أو وهابيا، كيف واختلاف الرأي والخلاف في الجملة طبيعة ارتكازية في البشر، ولعل إليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ أي للرحمة أو للاختلاف على الخلاف، ولكن ينبغي أن يكون من المقطوع به أن ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلاميّة إزالة اصل الخلاف بينها، أقصى المراد وجلّ الغرض هو إزالة أن يكون هذا الخلاف سببا للعداء والبغضاء، الغرض تبديل التباعد والتضارب، بالإخاء والتقارب، فإن المسلمين جميعا مهما اختلفوا في أشياء من الأصول والفروع فانهم قد اتفقوا على مضمون الأحاديث المقطوع عندهم بصحتها من أن من شهد الشهادتين واتخذ الإسلام دينا له فقد حرم دمه وماله وعرضه والمسلم أخو المسلم، وان من صلى إلى قبلتنا، واكل من ذبيحتنا، ولم يتدين بغير ديننا فهو منا، له ما لنا وعليه ما علينا.
إن جمعية التقريب لعلها تقول بعد اتفاقهم على كلمة واحدة على أن القرآن العزيز وحي من الله جل شانه وان العمل به واجب، ومنكر كونه وحيا كافر. والقرآن صريح في لزوم الاتفاق والإخاء والنهي عن التفرق والعداء، وقد جعل المسلمين اخوة فقال عز شانه: ﴿إنّما المؤمنون اخوة﴾ ﴿واعتصموا بالله جميعا ولا تفرقوا﴾ ﴿ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء﴾ إلى كثير من أمثالها، فبعد اتفاقهم على وجوب الأخذ بنصوص الكتاب الكريم فأي عذر لهم في هذا التباعد والتباغض والعداء والبغضاء، وكفى بالقرآن جامعا لهم مهما بلغ الخلاف بينهم في غيره، فإن رابطة القرآن تجمعهم في كثير من الأصول والفروع تجمعهم في اشد الروابط من التوحيد والنبوة والقبلة وأمثالها من الأركان والدعائم، واختلاف الرأي فيما يستنبط أو يفهم من القرآن في بعض النواحي، اختلاف اجتهادي لا يوجب التباغض والتعادي.
نعم اعظم فوق جوهري، بل لعله الفارق الوحيد بين الطائفتين: (السنة والشيعة) هو قضية الإمامة حيث وقع الفرقتان منها على طرفي الخط، فالشيعة ترى أن الإمامة اصل من أصول الدين وهي رديفة التوحيد والنبوة، وأنها منوطة بالنص من الله ورسوله، وليس للأمة فيها من الرأي والاختيار شيء كما لا خيار لهم في النبوة بخلاف اخواننا من أهل السنة، فهم متفقون على عدم كونها من أصول الدين ومختلفون بين قائل بوجوب نصب الإمام على الرعية بالإجماع ونحوه، وبين قائل بأنها قضية سياسية ليست من الدين في شيء لا من أصوله ولا من فروعه، ولكن مع هذا التباعد الشاسع بين الفريقين في هذه القضية هل نجد الشيعة تقول أن من لا يقول بالإمامة غير مسلم (كلا ومعاذ الله) أو نجد السنة تقول أن القائل بالإمامة خارج عن الإسلام ـ لا كلا ـ إذن فالقول بالإمامة وعدمه لا علاقة له بالجامعة الإسلاميّة وأحكامها من حرمة دم المسلم وعرضه وماله وجوب اخوته، وحفظ حرمته وعدم جواز غيبته إلى كثير من أمثال ذلك من حقوق المسلم على أخيه.
والغرض من كل هذا أننا مهما تعمقنا في البحث ومشينا على ضوء الأدلة عقلية أو شرعية وتحررنا من الهوى والهوس والعصبيات فلا نجد أي سبب مبرر للعداء والتضارب بين طوائف المسلمين مهما اتسعت شقة الخلاف بينهم في كثير من المسائل.
إن جمعية التقريب تريد أن تقرّب بين الطوائف الإسلاميّة وترفع العداء المستحكم بينهم، وتدعوهم إلى الأخذ بما أمرهم الله به من الاعتصام بحبل الإسلام وان لا يتفرقوا ويتنازعوا فتذهب ريحهم، ويتسلط عليهم أذل عباده وارذل خلقه. وليست هذه الفئة المباركة بأول من نهض بهذه الدعوة وقام بهذه الكفرة بل سبقهم إلى ذلك جماعة من المخلصين الغياري على الإسلام والمسلمين كالسيد الأفغاني والشيخ محمد عبده والكواكبي وغيرهم، سوى أن هؤلاء كانت دعوتهم بصفة فردية ورجال التقريب قاموا بها بصفة جمعية، ولعل الحق جل شانه بعنايته إذا علم بإخلاصهم وصدق نياتهم يجعل لدعوتهم ثمرا جنيا وأثراً حسيا.
جماعة التقريب تريد أن تقرب بين الطوائف الإسلاميّة وتبعثهم وتحثهم على الاخوة التي أمرهم الله بها في كتابه العزيز، ولكن يلزمهم ويلزمنا تمهيدا لهذه الغاية الشريفة أن ينصحوا لإخوانهم من الكتّاب وحملة الأقلام في مصر أن لا يتحرشوا ويطعنوا بإخوانهم، فما يكاد يأتي عام إلاّ وتسمع أو ترى كتابا أو رسالة من مصر ترمي الشيعة بالفظائع وتهجم عليهم بالمطاعن، وبحكم الضرورة يلتجيء هؤلاء إلى الدفاع عن أنفسهم فتثور الأحقاد وتستعر الحفائظ، وتكون اكبر خدمة للأعداء والمستعمرين، كما أن اللازم على كل فرقة من المسلمين من الشيعة وغيرهم أن يوصدوا باب المجادلات المذهبية وما يثير الحفائظ والعصبية، فإنها إن لم تكن محرمة بنفسها ومضرة بذاتها فهي من أعظم المحرمات في هذه الظروف التي أحاط بنا فيها الأعداء أعداء الإسلام من كل جانب الخارجي فهل في هذا كفاية وبلاغ أيها المسلمون؟ ﴿¬قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين﴾(1).
______________________________
1 ـ رسالة الإسلام مجلد 2: 268.