ـ(29)ـ
عاشها طيلة حياته الطويلة، والتي غلب عليها الميل إلى التوفيق بين الحكمة والشريعة ؟ فمثل هذه الفكرة تحتاج إلى شرح صدر كبير وأفق تفكير واسع.
تقول: إن هذا الفقيه المتضلع والقاضي العادل تأثر بما كان يراه يوم ذاك من ضعف المسلمين بالأندلس أمام أعدائهم، حيث خسروا كثيراً من البلاد، وأشرفوا على السقوط والخروج عن تلك "الجنة المفقودة" عن آخرهم ـ كما حدث بعد قرنين ـ فاتجه إلى الوفاق والسماح الفقهي حذراً من الفشل الناشئ من الاختلاف بين الفقهاء كما بين الأمراء.

بداية المجتهد ونهاية المقتصد:
هذا الاسم المتواضع مطابق للمسمى تماماً، يضع الكتاب في محله بلا زيادة ولانقصان، فإن الكتاب بحق للمجتهد المتضلع بداية السير واللطالب المبتدئ المقتصد نهاية المطاف، فهو وسط بين التوسعة والتقصير، كما أنّه وسط بين القواعد المنطوق بها والمسكوت عنها ـ حسب ما يصرح به ابن رشد ـ وفيه تواضع آخر حيث أنّه ألف الكتاب تذكرة لنفسه فيقول: "فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها، والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نقاط الخلاف فيها ما يجري مجرى الأصول والقواعد، عسى أن يرد على المجتهدين من المسائل المسكوت عنها في الشرع وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع، أو تتعلق بالمنطوق به تعلقاً قريباً، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها، بين الفقهاء المسلمين، من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد"(1).
______________________
1 ـ بداية المجتهد ص 2، مطبعة الاستقامة بالقاهرة.