ـ(195)ـ
على المصلحة المرسلة، إذ أنهم يقولون بها (1).
والحقيقة: أن هناك الكثير من أنواع الخلاف قد يبدأ واقعياً، ثم تأتي القيود والتعديلات لتنفيه، أو يعود لفظياً على أساس اختلاف زوايا النظر، وهذا ما نراه واضحاً ودقيقاً في الاستحسان عند من يراه حجة.
فإن مالكاً حين يقول: (الاستحسان تسعة أعشار العلم) فهو يقصد القول بأقوى الدليلين: كتخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر(2).
وقال ابن الأنباري: (الذي يظهر من مذهب مالك: القول بالاستحسان الذي حاصله: استعمال مسألة جزئية في مقابلة قياس كلي) (3).
ونقل عن ابن السمعاني: (أن الخلاف لفظي، فإن تفسير الاستحسان بما يشنع به عليهم لا يقولون به وأن الاستحسان بالعدول عن دليل إلى دليل أقوى منه لا ينكره أحد) (4). إذ نراه يشمل أبواب التزاحم والتعارض، والحكومة والورود والتخصيص، وغير ذلك مما يشكل قوام علم الأصول، فلا غرو إذا كان الاستحسان تسعة أعشار العلم هذا هو مذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، بل هو سنة العقلاء ولا يشكل أصلاً في مقابل الأصول الأخرى، إلاّ إذا فسر بمعنى "الانقداح النفسي" وهو باطل قطعاً.
أما الحنفية ـ ما عدا الطحاوي ـ فقد (تمسكوا بالقياس وبالغوا في الأخذ به، حتّى أنهم جعلوه مقياساً لجميع الأحكام، سواء كانت من المنصوص عليها أم لم تكن، فإذا كان في الأمر دليل أقوى من القياس ـ كنص من الكتاب أو السنة أو الإجماع ـ تركوا القياس، وأخذوا بالدليل الأقوى استحساناً) (5).
وقال القاضي يعقوب: (القول بالاستحسان مذهب أحمد، وهو: أن تترك حكماً إلى
__________________________________
1 ـ الاعتصام 2: 116، وبداية المجتهد 2: 152، ومختصر المنتهى: 220.
2 ـ أحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي: 687.
3 ـ موسوعة الفقه الإسلامي 6: 40.
4 ـ المبسوط للسرخسي 10: 145.
5 ـ المصدر السابق.