ـ(42)ـ
أ ـ بين الجبر والتفويض:
رأى ابن المعلم: أن إيضاح مفهومه للإرادة الحرة يستلزم الحديث ـ أولاً ـ عن مذهبي الجبر والتفويض، وقد بينا رأيه في مذهب الجبر. أما "التفويض" فهو: (القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والإباحة لهم ماشاؤا من الأعمال)(1). وفي عبارة أخرى: فإن ادعاء التفويض يعني: إنكار التكليف، وأن الأفعال كلها مباحة لا حظر عليها، وهذا مرادف لإنكار الألوهية. لهذا يقول ابن المعلم: (إنّ التفويض قول الزنادقة وأصحاب الإباحات)(2) أي: الإباحيين.
إنّ الإرادة الإنسانية ليست خاضعة لقسر أو جبر، لكنها تعمل في ظل "مثال" أو تكليف تلتزمه في نشاطها. ومن هنا كانت حقيقتها (واسطة بين هذين القولين: (الجبر، والتفويض) أي: أن الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم، ومكنهم من أعمالهم، وحد لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر، والتخويف، والوعد، والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها)(3).
ومن الجلي أن ابن المعلم يحتذي في موقفه السابق برأي الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ. وغير بعيد أن يكون قد وقف على رأي الفيلسوف أبي الحسن العامري في كتابه "إنقاذ البشر من الجبر والقدر". ولبيان أهمية الرأي الذي ينادي به ابن المعلم، علينا أن نشير بإيجاز إلى ما قرره العامري في هذا المجال. يقول:
(روي عن سيد علماء التابعين، جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام أنّه قال: "لا جبر ولا تفويض".. وروي عن زين الفقهاء أبي حنيفة أنّه قال: "أكره الجبر ولا أقول بالقدر، وأقول قولاً بين قولين". وهذان القولان مؤديان إلى معنى واحد، ويشبه أن يكون أبو حنيفة أخذ عن جعفر ـ عليه السلام ـ.
ثم إنّ مذهبي: الجبر والتفويض كلاهما قد فشيا في الناس، واستغنينا بشهرتهما عن
__________________________________
1 ـ ابن المعلم في شرح عقائد الصدوق أو تصحيح الاعتقاد: 189.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ تصحيح الاعتقاد للمفيد: 189.