ـ(35)ـ
الذي ينتهي إليه الشيء، تقول: "قدرت البناء تقديراً" إذا رتبته وحددته. قال تعالى: [وقدر فيها أقواتها](1)، بمعنى: رتب أقواتها، وقال تعالى:[إنا كلّ شيء خلقنا بقدر](2) يريد تعالى: برتبة وحد)(3).
ويخلص ابن حزم من تحليله لمعنى "القضاء" إلى إنّ (معنى: "قضى وقدر" هو: حكم ورتب، ومعنى "القضاء والقدر": حكم الله تعالى في شيءٍ بمدحه أو ذمه، وبكونه وترتيبه على صفة كذا، والى وقت كذا فقط)(4).
وعلى الرغم من وضوح المسألة لغة ونصاً فإن مصالح الفئة الحاكمة قد حرفت لفظي: "القضاء والقدر" عن معناهما؛ ليخدم أهدافاً سياسيةً اجتماعية معينة، وبهذا وضعت الأسس اللغوية لمذهب الجبر في الإسلام.
وقد عرف ابن منظور في "لسان العرب" هذا المذهب فقال: (الجبرية الّذين يقولون: أجبر الله العباد على الذنوب أي: أكرههم. ومعاذ الله إنّ يكره أحداً على معصيته)(5). وفي عبارة أكثر تفصيلاً فإن "الجبرية" هو: الاسم الذي يُطلق في تاريخ العقائد الإسلاميّة على أولئك المفكرين (الّذين ينكرون الاختيار.. ومن ثم لا يفرقون بين الإنسان والجماد من حيث أنّه مجبر على أفعاله)(6). (ولا يدله ـ حقاً ـ فيما يفعل، بل الله الذي يسيره)(7). وتبين من كتابات القاضي عبد الجبار المعتزلي(8)، والماتريدي(9): أنّه على الرغم من ادعاء الأشاعرة إنّ نظريتهم في "الكسب" وسط بين الجبر والقدر، فإنها تنحل في حقيقة الأمر إلى نظرية جبرية، ولا تخرج عن كونها جبرية مقنعة، طرحت في مواجهة انتشار مذهب حرية الإرادة في القرن الرابع الهجري. ولا يخرج التراجع المدعى
__________________________________
1 ـ فصلت: 10.
2 ـ القمر: 49.
3 ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 3: 52.
4 ـ المصدر السابق: 40 ز
5 ـ لسان العرب لابن منظور 4: 116.
6 ـ مونتجمري وات "الجبرية"، دائرة المعارف الإسلاميّة (النسخة العربية) 11: 72.
7 ـ المصدر السابق 11: 73.
8 ـ القاضي عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة: 363 ـ 387.
9 ـ أبو منصور الماتريدي في شرح الفقه الأكبر، طبع حيدر أباد، (1321 هـ): 12.