ـ(29)ـ
الفكر الشيعي واتجاهاته، وبين مدارس المعتزلة. ولما كان هذا الربط قد بدأ في عهد مبكر من تاريخ الإسلام ـ في عهد معاوية نفسه ـ فإننا نفهم أنّه لم كان أهل الشام معتقدين بمذهب الجبرية؟ ولم كان الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ حريصاً على فضح مذهب الجبر وشناعاته، والدفاع عن مذهب حرية الإرادة باعتباره منطلق الأوضاع القائمة، والعودة بنظام الحكم إلى ما كان عليه قبل الانقلاب الأموي، الذي تم في عهد الخليفة عثمان بن عفان.
تبين مما سبق: إنّ الفهم المنحرف "للقضاء والقدر" في الإسلام كان عائقاً في وجه كلّ دعوة للإصلاح والتغيير والثورة، بل كان الطريق لإحباط كلّ فعل ثوري أو إصلاحي قبل إنّ يبدأ لقد كان وما يزال الأداة المثالية للسيطرة على الأمة وتكبيلها وتخديرها، وحملها على قبول كلّ ظلم وفساد ومعصية، وعدم السعي إلى التغيير أو المطالبة بالعدل، والحيلولة بينها وبين نشر الازدهار والتقدم الحضاري، فليس في الإمكان إبداع مما هو كائن كما يقول فقهاء السلطان والمنظرون لـه.
لقد نقلت كتب علم الكلام حكاية لم تعط ـ للأسف ـ حقها من التحليل، فقد جاء في الأخبار أنّه (قال شيخ من أهل الشام ـ حضر صفين مع أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بعد انصرافهم من صفين ـ: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء من الله وقدر ؟ فقال: نعم، يا أخا أهل الشام، "والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئاًن ولا هبطنا وادياً، ولا علونا قلعةً إلاّ بقضاء من الله وقدره". فقال الشامي: عند الله تعالى أحتسب عناي إذا يا أمير المؤمنين، وما أظن إنّ لي أجراً في سعيي إذا كان الله قضاه علي وقدره لي فقال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ "إنّ الله قد أعظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا في شيءٍ من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، ولا عليها مجبرين". فقال الشامي: فكيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا ؟ فقال لـه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: "ويحك يا أخا أهل الشام، لعلك ظننت قضاء لازماً، وقدراً حتماً، لو كان ذلك كذاك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله ـ عز وجل ـ والنهي منه، وما كان المحسن أولى