ـ(34)ـ
ابتداء، من دون استعانة بالملازمة، لذلك قال: (إننا نفصل من الدليل العقلي حكم العقل النظري بالملازمة بين الحكم الثابت شرعاً أو عقلاً، وبين حكم شرعي آخر كحكمه بالملازمة في مسألة الأجزاء ومقدمة الواجب، ونحوهما. وكحكمه باستحالة التكليف بلا بيان اللازم منه حكم الشارع بالبراءة. وكحكمه بتقديم الأهم في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعلية حكم الأهم عنه الله)(1).
وبذلك ينفي هذا التعريف ما يتوهم من أنّ المقصود: إدراك العقل النظري للأحكام الشرعية ابتداءً، دون استعانة بالملازمة؛ لأن أحكام الشرع توقيفية لا طريق للعقل إليها إلاّ السماع، ومثل الأحكام كذلك ملاكاتها. وكذلك ينفي ما ليس قطعياً وثابتاً من الأحكام الظنية، كما أنّ التعريف يشمل المستقلات العقلية وغير المستقلات.
وبعد هذا العرض الذي حددنا فيه المقصود من دليل العقل نستطيع القول: بأن الخلط والارتباط وقع فيه بحيث أدى إلى اختلاف كبير في اعتباره وعدم اعتباره، ومع هذا كله لا يمكن أنّ نزهد به، أو نقلل من أهميته إذا ما استجلينا حقيقته ومقامه في كثير من الأحكام، وقابليته الكبيرة في إدراك أمور الدين كما سيمر علينا.

الموقف العام للمسلمين من هذا الدليل:
وقف المسلمون من العقل ـ باعتباره دليلاً قائماً بعد الأدلة الرئيسية: كالكتاب والسنة ـ موقفاً مختلفاً ومتعارضاً كل التعارض. فبينما يمثل اتجاه قبول العقل كمصدر قطعي ينتهي به إلى الحكم الشرعي يقف اتجاه آخر منه موقف المعارض، ويبعده كل البعد عن هذه الأهلية والقابلية، ويجمد طاقاته في إدراك الحكم الشرعي.
وبين هذين الاتجاهين: اتجاه ثالث يعتبر العقل أداة صالحة للمعرفة، ويمكن الاعتماد عليه في إدراك الحقيقة الشرعية في حدود إمكاناته المسطورة.
وسوف أعرض لهذه الآراء لدى الأعلام من أهل السنة والإمامية. فعند أهل السنة سأستجلي موقف الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية، وهذه المذاهب يمثل كل منها
__________________________________
1 ـ أصول الفقه للمظفر 3: 127.