ـ(156)ـ
مسلماً، ويرجع اختلافها في الأمور الظنية إلى أسباب علمية، ولا تمثل هذه الاختلافات مشكلة جوهرية للتقريب إذا فهمت على وجهها الصحيح، وما دام الواجب على أتباع المذاهب أنّ يربأوا بأنفسهم عن القول في أمرٍ دون علمٍ به، وأيضاً أنّ ينسبوا لأحدٍ رأياً دون تحقيق أو توثيقٍ، أو أنّ يظلوا في حالة نفورٍ وازورارٍ عن تراث غير المذهب الذي يقلدونه، فلا يلمون به أو يدرسونه فإن على الفقهاء والعلماء أنّ يهتموا بتوعية الرأي العام بالثوابت التي تجمع بين أبناء الأمة الإسلاميّة ، وأن يوضحوا لهم أنّ قاعدة الالتقاء بين هؤلاء الأبناء عريضة، وأن مظاهر الاتفاق أكثر من مظاهر الاختلاف (1)، وأن هذه المظاهر لا ينبغي أنّ تفرق بينهم، فهي رحمة وسعة وتيسير، فلا يجوز أنّ تصبح مصدر فتنةٍ وتمزيق.
روى ابن وهب، عن القاسم بن محمّد قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ): ( ما أحب أنّ أصحاب محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ لا يختلفون؛ لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيقٍ، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة).
يقول الشاطبي: (معنى هذا: أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه؛ لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيقٍ). ثم قال (فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة للدخول في رحمة الله)(2).
وإذا كان الاختلاف بين أكبر طائفتين في الأمة ـ وهما: السنة والشيعة في كثير من صوره ـ مرده إلى ما صح لدى كلّ منهما من حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فإن من الخطأ الاعتقاد بأن الاختلاف حول هذا الأمر واسع الشقة، وأن كلّ طائفة ترفض ما لدى الأخرى من الأحاديث والآثار.
إنّ المتفق عليه بين المسلمين جميعاً: أنّ ما يثبت عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يجب العمل به، كما أنّ العدد الأكبر مما ورد عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ في شؤون العقيدة والأخلاق والشريعة قد اتفقت عليه الطائفتان، ولهذا لا يوجد خلاف إلاّ في العدد الأقل من أحاديث الأحكام
__________________________________
1 ـ انظر توصيات ندوة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة التي عقدت بالرباط في الفترة (16ـ 18/9/ 1991م).
2ـ الاعتصام للشاطبي 2 : 170، طبع دار الفكر، بيروت.