ـ(153)ـ
الثاقبة، والفهم الواعي للحنيفية السمحة وما جاءت به من تشريعات صلح عليها أمر الدنيا والآخرة. والوقوف على تلك الأسباب في دراسات هذه الاختلافات يقضي عليها بالتقويم الموضوعي الذي لا يعرف الإفراط أو التفريط.
ج ـ الاقتناع بأن أئمة الفقهاء لم يتعصبوا لآرائهم، ولم يدع واحد منهم أنّ اجتهاده هو الصواب وحده، ولذا كان كلّ منهم يحترم رأي غيره، ويطبقه وإن لم يكن قد قال به، سداً لباب الاختلاف، وتأكيداً على أنّ كلّ الآراء يجب أنّ تلقى التقدير بدرجة سواء.
إذا قامت دراسة اختلافات الفقهاء على هذه الدعائم فإنها تنتهي ـ لا محالة ـ إلى أنّ هذه الاختلافات لا تمثل عقبة في طريق التقارب، فهي آية من آيات الحرية الفكرية في الإسلام، ومصدر من مصادر الثروة الفقهية التي تعتزبها الحضارة الإسلاميّة ، وأنها لم تكن في عصر الأئمة سبباً للشقاق والعداء، بل كانت محل تقدير الجميع وإنصافهم، فلماذا أصبحت على أيدي أتباع المذاهب ميداناً للتنابز والتفاخر والتخاصم والتدابر ؟ وكان ينبغي أنّ تظل كما كانت في عصر الأئمة، لا تفرق كلمة الأمة، ولا تباعد بين طوائفها، ولا تفسد للود قضية بينها.
إنّ أتباع المذاهب أضفوا على تلك الاختلافات قداسة ليست لها، وأنزلوها منزلة لا ترقى إليها، ومن ثم كان تعصبهم ورفضهم العمل بكل ما يخالفها ولو كان نصاً شرعياً ـ ما دام أئمتهم ـ لم يأخذوا به، مع أنّ كلّ الأئمة أجمعوا على أنّه إذا صح الحديث فهو مذهبهم ويجب أنّ نضرب بأقوالهم عرض الحائط.
إنّ احترام وتقدير الاختلافات الفرعية في الفقه الإسلامي شيء، وأن تكون هذه الاختلافات صخرة تسد طريق التقارب شيء آخر، ودراستها في ضوء تلك الدعائم سيضعها في موضعها الصحيح، ويرجعها إلى أسبابها العلمية، فلا نراها شرعاً ملزماً، ولا نرى في مخالفتها مروقاً من الدين أو ابتداعاً فيه، فلا يتعصب أحد لها، ويعذر بعضنا بعضاً فيها.
ثالثا: إذا كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوره، وإذا كان الأمر كما يقال: إنّ من جهل شيئاً عاداه، وإذا كان منهج الإسلام الدقيق يقوم على التثبت من كلّ خبر ومن كلّ ظاهرة ومن كلّ حركة قبل الحكم عليها مصداقاً لقوله تعالى: [ولا تقف ما ليس لك