ـ(152)ـ
التقارب، فقد وقر في الأذهان والمشاعر ـ بسبب العزلة الطويلة التي فرضها تبادل العداوات من قديم، وما نجم عن هذا من جهل أتباع المذاهب بعضهم بعضاً، وتصديق ما شاع عنهم من أراجيف وترهات أعطت انطباعاً غريباً منفراً حمل على الخيفة والتوجس ـ أنّ أتباع كلّ مذهب هم الذين يستمسكون بتلك الأصول دون سواهم، وبذلك لا ينظرون إلى غيرهم نظرة صحيحة، ولا يحكمون عليهم حكماً عادلاً، ويهابون القرب منهم، أو التعاون معهم، فإذا ما أدرك الجميع أنهم لا يختلفون حول أصول العقيدة التي يؤمنون بها وأنهم بها مسلمون وإخوة فإن تلك المشاعر الموروثة التي غذاها الجهل ومكن لها طول الزمن ستخف حدتها وتتوارى شيئاً فشيئاً، ومن ثم تصبح النفوس مهيأة للتآلف والتعارف، ويصبح لصوت التقريب صدى طيب في كلّ ديار الإسلام.
ثانياً: وإذا كان الإيمان بأنه لا اختلاف بيننا في الأصول يعد البداية الصحيحة للتقارب فإن الاختلاف في الفروع يجب أنّ يدرس دراسة علمية تبتغي المعرفة الصحيحة لأسبابه وملابساته وطبيعته. فهذه الدراسة تعد الوسيلة العملية لجعل التقارب حقيقة واقعية؛ وذلك لأن الاختلاف في الفروع كان مصدر التعصب والتنابز والعداء، وكان عدم الوقوف على أسبابه، وموقف الأئمة منه يحول بين أتباع المذاهب والنظرة الموضوعية إليه، ويتخذون منه حجة للتعصب والاتهام بالمروق من الدين أو الابتداع فيه.
ودراسة الاختلافات الفقهية في القضايا الفرعية تحقق غايتها في التقريب إذا نهضت على الدعائم الثلاث التالية:
أ ـ التسليم بأن اجتهادات الفقهاء وآراءهم ليست شرعاً واجب الاتباع، وإنّما هي فهم بشري لنصوص الشريعة وقواعدها العامة، ولهذا تحتمل الصواب والخطأ، وليس لها صفة الثبات والخلود.
ب ـ كان من وراء اختلافات الفقهاء في القضايا الفرعية(1) أسباب علمية تشهد للأئمة بالحرص البالغ على تحري الحق والصواب، كما تشهد لهم بالعقلية الفاحصة، والنظرة
__________________________________
1 ـ انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية، وغاية الإنصاف في أسباب الاختلاف للدهلوي، وأسباب الاختلاف بين الفقهاء للشيخ علي الخفيف