ـ(142)ـ
يضاف إلى ذلك: أنّ هذا الفقه بلغ ـ بفضل اجتهاد أعلامه المجتهدين ـ شأنا عظيما من الأصالة والدقة، ومن إحكام النظم، وحوى أعداداً لا تحصى من حلول المسائل، مما جعل علماء الغرب يعترفون لـه في مؤتمراتهم الدولية بمكانة سامية بين النظم القانونية في العالم، وبأنه يعد في طليعة المصادر الصالحة لسد حاجات التشريع الحديث.
وهكذا فقد سجل مؤتمر القانون المقارن المنعقد بمدينة "لاهاي" سنة (1936م) قراره التاريخي الهام القاضي باعتبار الشريعة الإسلاميّة مصدراً من مصادر التشريع العام، وأنها حية قابلة للتطور، وأنها شرع قائم بذاته ليس مأخوذاً من غيره.
لم يأت الإسلام بالعقيدة الدينية الصحيحة وحدها، ولا بالنظام الأخلاقي المثالي الذي يقوم عليه المجتمع فحسب، بل جاء مع هذا وذاك بالشريعة المحكمة العادلة. هذه الشريعة التي تحكم الإنسان وتصرفاته ومعاملاته في كلّ حالٍ، في علاقته مع خالقه، وفي خاصة نفسه، وفي علاقته بأسرته، وفي علاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه، وفي علاقات أمته بالأمم الأخرى.
ليس الإسلام إذن ديناً فقط لـه عقائده المعروفة، بل هو دين ودولة معاً، إنه يمثل أيضاً نظريات قانونية وسياسية إنه نظام كامل ومنهاج شامل.
لقد كان كتاب الله ـ ولا يزال حتى قيام الساعة ـ الميزان الأعلى، والمعيار الأسمى، والمعين الذي لا ينضب، والسلسبيل الذي لا يغور ولا يذهب، والنبراس المنير والوهاج حين يعم الظلام وتلتطم الأمواج.
وإذا كانت العبادات مبنية على مقاصد قارة فلا حرج في دوامها ولزومها للأمم والعصور إلاّ في أحوال نادرة تدخل تحت حكم الرخصة. أما المعاملات فبحاجة إلى اختلاف تفرعاتها باختلاف الأحوال والعصور، فالحمل فيها على حكم لا يتغير فيه حرج عظيم على كثير من طبقات الأمة، ولذلك كان دخول القياس في العبادات قليلاً نادراً، وكان معظمه داخلاً في المعاملات.
إنّ قواعد الشريعة الإسلامية تحدد المثل العليا لما يجب أنّ يكون عليه سلوك الأفراد في المجتمع، فهي من هذا وليدة المعتقدات والعادات المتأصلة في النفوس، ويجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها وفقاً لوازع شرعي ووجداني وأخلاقي يحكم معاملاتهم