ـ(64)ـ
والقاضي محمّد بن الحسين أبو يعلى، وأبو عامر القرشي(1) الذي اشتهر عنه وهو يفسر قوله تعالى: [يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون](2) أراد أنّ يدفع بحمية بالغة التفسير المجازي، فضرب على ساقه وقال: (ساق ـ حقيقة ـ شبيهة تماماً بهذه وأشار إلى ساقه)(3).
وسبب انتشار دعوى كهذه قصور كثيرٍ من الناس عن تفسير متشابهات القرآن، وتمييز وجوه أمثالها ومجازاتها الرائعة عند العرب، لذا تصدى لهؤلاء وأمثالهم في القرن السادس الهجري: الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي، فصنف في الرد عليهم رسالته الموسومة بـ "دفع شبهة التشبيه" ويقول فيها: (رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أنّ الله خلق آدم على صورته، فأثبتوا لـه صورة ووجهاً زائداً على الذات، وفماً، ولهواتٍ،وأضراساً وأضواء لوجهه، ويدين، وإصبعين، وكفاً، وخنصراً، وإبهاماً، وصدراً، وفخذاً، وساقين، ورجلين، وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس.
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعةً، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من صفات الحدوث، ولم يقتنعوا أنّ يقولوا: صفة فعلٍ حتّى قالوا: صفة ذات.
ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل"يد" على نعمة وقدرة، ولا "مجيء وإتيان" على معاني برٍ ولطفٍ، ولا "ساق" على شدة، بل قالوا: نحملها
__________________________________________
1 ـ راجع في شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي 4: 7 و 8 و 3: 306 والمنتظم لابن الجوزي 1: 32، وتاريخ بغداد، للخطيب البغدادي 2: 256.
2 ـ القلم: 42.
3 ـ العقيدة والشريعة في الإسلام، لجولد زيهر: 109.