ـ(34)ـ
والواقع أنّ كلّ تلك العوامل والأسباب ـ مجتمعة ـ متداخلة يمكن أنّ تفسر في ضوئها ظاهرة الغلوّ، وإلا فإننا ربما نجد توفر واحدٍ من تلك العوامل التي ذكروها:
كالاضطهاد مثلاً، ومع ذلك لا نجده يقود إلى الغلو أو المغالاة. كما أننا نجد غلواً عند كثير من المتصوفة، وليس تقف وراءه مثل تلك الأسباب التي أكدها الدكتور الشيبي، على أنّ عاملاً أغفل ذكره يمكن أنّ نضيفه إلى ما ذكروه، وهو: ظهور بعض الأعمال والإنجازات غير العادية أو الخوارقية: كالكرامات أحياناً على يد أحد الأئمّة، فتكون مثار إعجابٍ وإعظامٍ ثّم لا تلبث أنّ يروج لها بصورةٍ مغاليةٍ، وتأخذ منحى التطرف عند قومٍ فيصيرون إلى الغلوّ والمغالاة.
وعلى أية حالٍ، فإننا نجد أنّ الشيخ المفيد ـ رحمه الله ـ قد كان متابعاً لموقف أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة، ولما أعلنوه ـ عليهم السلام ـ مراراً من البراءة من الغلاة، والجهر بلعنهم، وأمر شيعتهم بالابتعاد عنهم، والتبرؤ منهم (1).
نعم، لقد تصدى الشيخ المفيد لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة، والوقوف بحزم وجرأة في وجهها، والدفاع عن المذهب وبيان الاعتقادات الصحيحة. ثم ذكر أيضاً: (إنّ الإمامية لم يكتفوا بالبراءة منهم، بل جردوا الحجج من الرد على القائلين بمقالاتهم، وباينوهم في الظاهر والباطن)(2). وهنا يمكننا أنّ نتلمس منهجه في التصدي لهذه الظاهرة (الغلو) متمثلاً في أسلوبين:
أولهما: الكشف عن طبيعة الغلو وحده، وذكر أهم فرقه ـ الغلاة ـ وبيان دعاواهم، وأراجيفهم، ومزاعمهم، ودفع ذلك ومناقشته بالحجة والمنطق والدليل والبرهان موضحاً في كلّ ذلك تهافت مقالاتهم، ومدى مجانبتهم الصواب وارتكابهم
____________________________
1 ـ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2: 234.
2 ـ المسائل الصاغانية في الرد على أبي حنيفة: 251 مطبوعة ضمن مجموعة رسائل، ط 1، منشورات مكتبة المفيد، قم، إيران.