ـ(132)ـ
فالقول الثاني ناسخ للأول وإن لم يكن تاريخ القولين معلوماً فينبغي نسبة أحد القولين إلى المجتهد واعتبار القول الآخر مرجوعاً عنه، ولكنه لا يصح العمل بأحد القولين قبل تبين الأمر؛ لاحتمال أنّ يكون ما عمل به هو المرجوع عنه(1).
ولا يعقل أنّ يرى المجتهد أنّ عدة المطلقة من ذوات القروء ثلاث حيضات، ويرى للمرأة نفسها في الوقت نفسه أنّه ثلاثة أطهار!.
وقال العضدي: ( لا يجوز أنّ يكون لمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد، لأن دليلهما إنّ تعاد لا توقف، وإن ترجح أحدهما فهو قوله، ويتعين، وأما في وقتين فجائز؛ لجواز تغير الاجتهاد) (2).
ثانياً: أدلة التفصيل بين العمل والفتوى وبين الحكم:
هناك فرق بين الحاكم أو القاضي والمفتي وهو: أنّ الحاكم أو القاضي أو المفتي كلّ مشترك في وجوب إظهار الحكم في الواقعة، ويتميز الأول بالإلزام، بخلاف المفتي، فإن فتواه غير ملزمة(3). وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدي إلى غير المحكومم عليه وله، والمفتي يفتي حكماً عاماً كلياً، والقاضي يقضي قضاءً معيناً على شخصٍ معينٍ، فقضاؤه خاص ملزم، وفتوى العالم عامة غير ملزمة، فكلاهما أجره عظيم وخطره كبير.
وهناك فرق آخر: فالمجتهد لنفسه إذا رأى حكماً معيناً ثم تغير ظنه لزمه أنّ ينقض اجتهاده وما ترتب عليه، وإذا كان المجتهد حاكماً فقضى في واقعة بما اجتهد ثم تغير اجتهاده في واقعة مماثلة: فإن كان حكمه مخالفاً لدليلٍ قاطعٍ: من نصٍ أو إجماعٍ أو قياس جلي فينقض اجتهاده وما ترتب عليه، وإذا كان المجتهد حاكماً فقضى في واقعةٍ بما اجتهد ثم تغير اجتهاده في وقاعة مماثلة: فغن كان حكمه مخالفاً لدليلٍ قاطع: من نص أو إجماع أو قياس جلي فينقض بالاتفاق بين العلماء، سواء من قبل الحاكم أو من أي مجتهد آخر لمخالفته الدليل. أما إذا كان حكمه مخالفاً لدليل ظني من نص أو غيره
_________________________________
1 ـ المستصفى للغزالي 2: 120، الآمدي 3: 157، مسلم الثبوت 2: 244، إرشاد الفحول: 232.
2 ـ شرح عضد الدين على مختصر ابن الحاجب 2: 299.
3 ـ بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية 4: 22، اعلام الموقعين 1: 37.