/ صفحه 9/
هذا ونرى القرآن الكريم من ناحية أخرى حرص على أن يبرز مهمة الرسول في التبليغ بالأنذار والتبشير. أبرز ذلك في مكي القرآن يوم كان المسلمون قلة لا حول لهم ولا قوة، وأبرزه في مدنيه يوم أن صارت إليهم القوة وأصبحوا أولى بأس شديد، فمن المكي قوله: (إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم) وقوله (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر، إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم)، ومن المدني قوله تعالى:
(قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِّل وعليكم ما حمَّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين).

هذه الآيات وأمثالها واضحة في تقرير أن الرسول غير مسئول أمام ربه عن كفر من كفر، وعناد من عاند، حتى يتخذ القهر والإلجاء طريقاً للاسلام.

ذيوع الإسلام عن طريق الأسفار:
وهناك وراء ما يستفاد من هذه النصوص وأمثالها في تقرير تلك الحقيقة أمر واقعى يشهد به التاريخ في أحوال الذين دخلوا الإسلام، ذلك أن كثيراً من الأقطار الإسلامية قد دخلها الاسلام عن طريق التجارة، والسياحة، وتبادل الزيارات من غير أن يكون للحرب دخل في إسلامها. وأن كثيراً من هؤلاء وغيرهم الذين دخل الإيمان في قلوبهم تقلبت عليهم عوامل الضغط والإلجاء لإخراجهم عن دينهم، وإكراهم على التخلي عنه، فلم تنجح هذه العوامل، ولم تزدهم إلا تمسكا بدينهم، وقوة في إيمانهم.

السبب في مشروعية الحرب:
هذا ما تشهد به النصوص، وهذا ما يشهد به التاريخ قديمه وحديثه، فلنتجه إذن إلى البحث في تعرف السبب الذي لأجله شرع الله الحرب في الإسلام.
ولنذكر مراحل الدعوة من مبدئها إلى أن أذن الله بالحرب للمسلمين: بدأت الدعوة سراً، فآمن نفر قليل كانت تجمعهم والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وشائج الرحم، أو الصداقة، ثم أخذت طور الجهر فوجهت إلى العشيرة الأقربين، ثم إلى النّاس أجمعين، ورآها المشركون تسرى ويكثر معتنقوها فلم يطيقوا عليها صبراً، فبدءوا بمساومة الرسول وإغرائه على ترك دعوته بما يطلب من مال أو جاه أو ملك فكانت كلمته المأثورة: ((والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلِك دونه)) فاتجهوا إلى العنف والاضطهاد، وقد دون التاريخ من حوادث التعذيب للمسلمين الأولين ما تقشعر لهوله الجلود، وما دفع المسلمين إلى أن يفكروا في الخلاص بدينهم ووقاية أنفسهم ودعوتهم، فهاجروا إلى الحبشة مرة ومرّة، والتجئوا إلى الطائف، فلم تنفعهم الهجرة، ولم ينقذهم الالتجاءِ وأشتد ضغط الكفار عليهم فى الإنداء حتى ائتمرواأخيراً بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقرروا فيما بينهم قتله، فكانت الهجرة إلى المدينة، وبالهجرة أخذت الدعوة تسرى بما تحوى في طبيعتها من جلال وجمال حتى كونت لنفسها أنصاراً من شباب يثرب عاهدوا الرسول على الموت في سبيل نشرها وحمايتها.