/ صفحه 335/
ولو لا حظنا سبب المنع لوجدناه تنزيهياً على الأكثر، فإن المانعين يريدون المحافظة على سمعة القضاء، ورفعة القاضي، والعمل بعلمه قد يدفعه إلى التهمة في نظر المتخاصمين، وإن في العمل بعلمه نوعاً من تزكية النفس، والله تعالى يزكي الأنفس.
والسبب الأول وجيه بالنسبة إلى القاضي الذي لم يجمع شرائط القضاء، أما القاضي المجتهد العادل فهو أبعد من أن تحوطه الشبهات، على أن سوء الظن إذا حصل حول الحاكم بسبب العمل بعلمه، فإن ذلك يحصل حوله حتى إذا كان الحكم مستندا على التواتر والشياع.
وأما السبب الثاني فليس فيه أي تزكية للنفس، لأن العمل بعلمه ليس من باب الاعتزاز، بل لانحصار تحقيق الحق به بعد فقدان البينة أو قيامها على خلاف مايعلم على أن تزكية القاضي يحصل حاصل، فإن عدالته وقدسيته معلومتان منذ نصبه للقضاء متوليا أمور المسلمين.
وقد يستشهد لرأي المانعين بالحديث النبوي المتقدم: ((إنما أناا بشر وإنكم تختصمون إلى، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ماأسمع منه... الخ)) فإنه يكاد أن يكون صريحا في الأخذ بطريق البينة عند الترافع بين يديه صلوات الله عليه، والجواب عن هذا واضح كل الوضوح، فإنه(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يريد أن بيعد العمل بطريق العلم بالمغيبات التي ينحصر العلم بها في الأنبياء، لذلك تراه (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بأداة الحصر لصفته البشرية، لا لصفته النبوية التي تستلزم الوحي من الله عز وجل، لأن العمل بموجب الوحى طريق خاص، لا يمكن سلوكه إلا لمن يوحي إليه، والرسول الكريم حريص على أن يضع في دستور الإسلام القواعد العامة التي تصلح لكل عصر، وتطبق في كل زمان، وهذا ما حمله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يضع لكل عصر، وتطبق في كل زمان، وهذا ما حمله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يضع البينات طريقاً لحل الخصومات.
على أن الحديث صريح بأن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قرر طريق البينة في وقت لم يحصل له علم اعتيادي قبل المرافعة، لحصر علمه بالسماع من المترافعين، ولا شك أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لم يكن له علم بالموضوع ينحصر الحكم بموجب البينة، والعمل بعلمه أو عدم العمل به أمر مسكوت عنه لم يشر إليه الحديث، فيبقى بغير معارض، والأصل الأولى جواز العمل به، ولم يأت دليل يخرجنا عن هذا الأصل.