/ صفحه 333/
من الاعتبار بحيث يجب إمضاؤه ولا يجوز رده، هل هو حكم الله في الظاهر فجسب أو أنه حكم الله في الظاهر والباطن بحيث يكون له أثر وضعي يغير الواقع؟ فالزوجة مثلا لو أقامت دعوى الطلاق وهي لا تزال بعصمة زوجها، وحكم لها القاضي بالطلاق بعد قيام البينة، فهل لها أن تتزوج لأنه حكم لها بالطلاق، أو أنه لايجوز لها ذلك لعلمها ببقاء الزوجية؟ إن الفقه الجعفري صريح بالنفي، لأن الواقع لا يتغير بحكم الحاكم، وعلى هذا بقية المذاهب إلا الإمام أبو حنيفة، كما صرح به العلامة ابن رشد في كتابه ((بداية المجتهد))(1).
ويؤيدما ذهبت إليه أكثرية المذاهب قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثه المشهور: ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ماأسمع منه، فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار)) والذي يظهر من ابن رشد أن الإمام أبا حنيفة قاس ذلك على الحكم باللعان الثابت بالشرع، وقد علم أن أحد المتلاعنين كاذب، واللعان يوجب الفرقة، ويحرم المرأة على زوجها الملاعن لها، ويحدث ابن رشد أن الجمهور يقول: إن الفرقة ههنا إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب.

ــــــــــ
(1) ص 451 الجزء الثاني.

ومهما يكن من شىء فإن القياس ـ على تقدير الأخذ به ـ إنما يكون مع فقد النص، والحديث النبوي الكريم صريح بأن الحكم لا يغير الواقع، فلا يحل حراماً ولا يحرم حلالا دون أن يكون الواقع كذلك، فالأخذ بالقياس هنا مع هذا الوضوح اجتهاد في مقابل النص.

يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه:
وأود بعد أن ألمحت إجمالا إلى موقف القاضي من الشهادات، وإصدار الأحكام أن أعرض إلى نقطة واحدة لا تخرج عن المقام، وهي هل للحاكم أن يعمل بعلمه عند الترافع بين يديه فيحم بعلمه، أو لا يجوز ذلك؟.
المشهور بين أعلام الفقه الجعفري أنه يجوز للحاكم الحكم بعلمه بدون بينة أو إقرار في حقوق الله، وحقوق الناس، ولم نعرف من خالف في ذلك إلا ابن حمزة والإسكافي، فإن الأول قد خصص الجواز بحقوق الناس، والثاني خصصه بحقوق الله، كما حكى عنه ذلك في مختصره الأحمدي، وقيل أنه منع الجواز بصورة مطلقة، ويذهب العلامة الغزالي إلى عدم الجواز عى أصح القولين(1)ويقصد بذلك القولين المنسوبين للإمام الشافعي، وقد روي العلامة ابن رشد القول الآخر عن الشافعي، وهو الجواز(2)في كتابه ((بداية المجتهد)).

ــــــــــ
(1) ص 145 الجزء الثاني من كتاب الوجبز في الفقه الشافعي.
(2) ص 458 الجزء الثاني ـ نقل أنه قال به الإمام أحمد وشريح والكوفي والشافعي وأبو ثور وجماعة، وقال في ص 459 من نفس الجزء ما نصه: وخصص أبو حنيفة وأصحابه ما يحكم به الحاكم بعلمه، فقالوا: لا يقضي بعلمه في الحدود، ويقضي في غير ذلك، وخصص أيضاً أبو حنيفة العلم الذي يقضي به، فقال: يقضي بعلمه الذي علمه في القضاء، ولا يقضي بما علمه قبل القضاء، وروي عن عمر أنه قضى بعلمه على أبي سفيان لرجل من بني مخروم، وقال بعض أصحاب مالك: يقضي بعلمه في المجلس، أعنى بما يسمع، وإن لم يشهد عنده بذلك، وهو قول الجمهور.