/ صفحه 319/
وقبل أن ندخل في بيان ماتوحي به هذه الآية نسارع فنقول: إن الله تعالى سمي نفسه ((رب العالمين)) وكلمة رب هذه تدل على معنى التربية والتعهد، وتنطبق على ما الله تعالى من فضل على جميع العوالم، باعدادها وامدادها، فمن تأمل كيف أنعم الله بالتهيئة والإمداد في كل عالم: من عالم النبات، إلى عالم الحيوان، إلى عالم الجماد، إلى عالم الكواكل،إلى غير ذلك من العوالم; فإنه يرى آثار الرحمة الإلهية واضحة، ويكفي أن ننظر إلى ذلك مثلا في خلق الجنين وتكوينه ورزقه وحفظه في رحم أمه وولادته وإرضاعه الخ... لنرى أن الله يغمره بالرحمة والتربية عمرا، وأنه بعد ذلك يتعهده في كل خطوات حياته إلى أن ينتهي، بألوان من التعهد والعناية لا تذكر بجانبها عناية الأب بابنه، لأن محدود، وقدرته وعلمه محدودان.
وإذن فوصف الله تعالى بأنه رب العالمين هو أبلغ وأقوى في إفادة معاني الرحمة والعناية والتعهد من وصفه عند المسيحيين بالأب، هذا إلى ما في لفظ الأب من الإيحاء بعلاقة لا يستحبها الإسلام، بل يجب تنزيه الله عنها ((قل هو الله أحد*الله الصمد*لم يلد ولم يولد*ولم يكن له كفواً أحد)).
3 ـ وإذا نظرنا بعد ذلك إلى ما توحي به الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: ((ولله الأسماء الحسنى)) فإننا نستطيع أن ندرك كيف حرص القرآن الكريم على أن يصف لنا الإله بمجموعة من الأسماء أو الصفات التي نستطيع أن نقول: إنها ينابيع الخير والعدل والحق والجمال والجلال، فهو لا يريد أن نرى من الإله جانبا واحداً فيكون إدراكنا لعظمته جانبياً، أي مرتبطاً بجانب، ولكنه يريد أن نرى من الإله لك الجوانب، لأن من رأى جانباً واحداً، أو بعض الجوانب، لم يكن مدركا للعظمة من جميع نواحيها، وبعبارة أخرى يعلمنا الإسلام أن ننظر إلى صفات الله كلها كمجموعة، ولا نكتفي بالنظر إلى جانب واحد منها، وإلا كنا قاصرين عن إدراك كمال الله تعالى أو مقصرين فيه.
يروى أن بعض المتصوفة كان من شأن أن يتأمل في صفات الله واحدة بعد واحدة فربما استغرق بضع سنين لا ينظر إلا في صفة ((الرحمن)) أو ((الرحيم)) فيتأمل في آثار الرحمة الإلهية تأملا عميقا، ويقف عند كل أثر من هذه الآثار وقفة الخاشع المعجب، ويسنمر على ذلك لا يشغل نفسه بتأمل صفة أخرى من صفات الله لمدة أعوام، حتى إذا امتلأ بهذه الصفة قلبه، وعمق الإيمان بها في أعماق نفسه، انتقل إلى سفة أخرى كصفة ((العزيز)) مثلا، فجعل يتأمل مظاهر هذه العزة في الكون وفي الناس مدة أخرى وهكذا...