/صفحة 298/
المستكمل الذي تدفعه روح العصر إلى التجمل بألوان من الثقافة العامة لا يليق بالمتحضر أن يجهلها ولا أن يجرد نفسه من قدر منها. فهو ـ في تعلمها ـ غير أصيل، وحظّه منها يسير. ومثل هذا يحتاج إلى ترغيب، ومن خير وسائل الترغيب: اللغة التي تكتب بها تلك العلوم والطريقة التي تعرض بها.
وإذا كانت اللغة الموجزة الكزّة (لغة المتون وأشباهها) معيبة، فشبيه بها اللغة المضغوطة المزدحمة بالدلالات والإشارات والأحكام النحوية الدسمة ـ فهي معيبة كذلك؛ وخير مثال لها كتاب سيبويه الذي يمثل في كثير من نواحيه لغة الفارسي المستعرب، في إيجازها وازدحامها بالمعاني والأغراض ازدحاماً قد يبلغ حد التخمة، مع التواء حيناً، وعجز قد يبلغ حد اللكنة أحياناً. استمع إليه في أول عنوان يفتتح به كتابه فيبين أقسام الكلمة قائلا: " هذا باب علم ما الكلم من العربية" .
واقرأ ما جاء في الهامش (1) عن هذا العنوان. واستمع إليه حين يقرر القاعدة النحوية المشهورة وهي: أن الخبر مرفوع بالمبتدأ فيقول(2):
" فأما الذي بنى عليه شيء هو هو فإن المبنى عليه يرتفع به كما ارتفع

ــــــــــ
(1) جاء في هامشه المختار (من تقريرات وزبد السيرافي وغيره) ما نصه
(قوله: هذا باب علم ما الكلم من العربية) " أشار رحمه الله إلى ما في نفسه من العلم الحاضر، أو أشار إلى منتظر قد عرف قربه، هذا الشتاء مقبل، وهذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. والثالث: وضع كلمة الإشارة ليشير بها عند الفراغ مما يشير إليه؛ هذا ما شهد عليه الشهود. وقوله: " ما الكلم"، لم يقل الكلام؛ لأنه للكثير، و" الكلم" : جمع كلمة، ولم يقل " الكلمات" لأن " الكلم" أخف، ولأن " الكلم" اسم الذات و" الكلام" المصدر. وأدخل " من" لوجهين؛ أحدهما: تبيين الجنس، والثاني انه قصد إلى الاسم والفعل والحرف، وليس هو كل العربية. ولذلك قال: هذا باب، ولم يقل هذا كتاب، وفي الترجمة خمسة عشر لفظاً !!!" .
(2) راجع الأشموني باب المبتدا والخبر حيث تجد شرحه وتوضيحه.