/صفحة 154 /
أطعمة أخرى، كانوا يؤثرون اللحم الإنساني، ويعتبرونه من مظاهر الترف والأبهة. بل لقد كانوا يستأجرون بعض المجرمين والسفاحين ليصيدوا لهم الأطفال والشبان لتزدان موائدهم بلحومهم. وكان أرقى ما يقيمونه من مآدب هي المآدب التي يقدمون فيها هذا الصنف الفاخر من اللحوم ! وكانوا لا يكتمون عن أصدقائهم من المدعوين حقيقة الأمر، بل كانوا يفخرون بذلك ويعدونه مبالغة في الحفاوة بضيوفهم وإكرامهم. . . ويختم البغدادي حديثه هذا بقوله: " ولو أخذنا نقص كل ما نرى ونسمع لوقعنا في التهمة أو في الهذر. وجميع ما حكيناه مما شاهدناه لم نتقصده ولا تتبعنا مظانه؛ وإنما هو شيء صادفناه اتفاقا؛ بل كثيراً ما كنت أفر من رؤيته لبشاعة منظره ".
ويصف المقريزي في كتابه " إغائة الأمة بكشف الغمة " (1) إحدى المجاعات التي حدثت في مصر في ايام المستنصر (خامس الخلفاء الفاطميين في مصر 427 ـ 487 هـ 1035 ـ 1094 م) واستمرت نحو سبع سنين، كان أشدها وطأة سنتي 459، 460 هـ، فيذكر أنه قد استولى الجوع على الناس، فأكلوا القطط والكلاب، واختطف الإنسان من الطرقات ليؤكل، فوقف الناس في الطرقات يأكلون من ظفروا به، ويخطفون الآدميين بالكلاليب، وبيع لحم الإنسان عند الجزارين، وأكل الناس الجيف، وأكل بعضهم بغلة الوزير نفسه، فلما شنق الذين اتهموا بأكلها لم يتورع الناس عن أكل جثثهم تحت ظلام الليل.
* * *
ولكن شعوباً أخرى كثيرة ظهر لديها أكل لحوم البشر في صورة عادة اصيلة غير مرتبطة بقحط أو مجاعة أو ندرة في الغذاء الحيواني. فكان الإنسان عندها في عداد الحيوانات مأكولة اللحم، بل كان عند كثير منها من ازكى هذه الحيوانات طعاماً، وألذها مذاقا. فقبائل الفيدجيين (تسكن أرخبيل فيدجي في ميلانيزيا بين

ــــــــــ
(1) تناول المقريزي في هذا الكتاب تاريخ المجاعات في مصر وأسبابها، فذكر منها ستاً وعشرين مجاعة، وقع منها قبل الإسلام ست مجاعات، ووقع منها بعد الإسلام عشرون مجاعة، . ولا يذكر المقريزي هذه المجاعات على سبيل الحصر، فهناك مجاعات أخرى كثيرة حدثت في مصر ولم يعرض لها في كتابه.