/ صفحه 60/
استدعى التعدد والاختلاف أن يقيم كلٌّ حجته، ويدلي ببرهانه، ويدفع أدلة الآخر؛ فانفتح بذلك باب بغيض من المنطق الجدلي، والسفسطة العنيفة، وملأ النفوس حنقا، وأرهق العقول، وكاد يقضي على حسن الظن بجلال النحو وعظيم شأنه، وشدة الحاجة إليه، والى الاستفادة منه، ولا سيما بعد أن تعاورته حقب وأجيال لم تصلح من أمره شيئا؛ بل زادته تشويها وإفساداً. وحسبي أن أشير ـ مرة أخرى ـ إلى باب كباب الجوازم والنواصب، في كتاب " همع الهوامع " ليفزع القارئ حين يرى الخلاف يشمل كل مسألة من مسائله، وتعدد الآراء يعم قواعده؛ فيملأ النفس حيرة واضطرابا، بمازجها دهش غامر، وحسرة بالغة.
لعل فيما تقدم ما ينهض دليلا على أن النحاة الأوائل قصَّروا وأساءوا ـ غير قاصدين ـ برغم ما لهم من فضل لا يجحده منصف، وجميل لا يماري فيه إلا جاهل أو مكابر. وقد سكت خلائفهم عن هذا التقصير. وكان صائب الرأي، وصادق التقدير، يقتضيهم أن ينظروا بعين الغيب إلى هذه المشكلة العنيفة التي جلبت البلاء على النحو والنحاة وطلاب التحصيل، ويتوقعوا ظهورها بارزة كأداء خطيرة، فيبحثوا أول ما يبحثون مسألة اللغة في القبائل العربية المختلفة؛ أمتساوية لديهم جميعا؛ في الفصاحة، وسلامة المبني، وصحة التركيب، أم متفاوتة؟ وماذا وراء البحث؟ وراءه نتيجة هامة الأثر خطيرة الغاية. فإن صح أن اللغات والقبائل متساوية في هذا ـ كما يقول الثقات ـ صح الحكم القاطع بإخفاق كل محاولة لوضع " نحو " موحد " وقواعد " عامة شاملة تقدم لهذه القبائل كلها مع كثرة لهجاتها، وتباين كثير منها، وليس بعضها أحق بالأخذ من لغته دون الآخر؛ فكلهم سواسية، وليس بمستطاع الأخذ عنهم جميعاً؛ فأي " نحو " هذا الذي يحوي في ثناياه كل القواعد والأحكام التي تنطبق على كل اللغات واللهجات وتوافق أصحابها على وفرتهم وتشعب خصائصهم اللغوية؟.
إن " نحواً " كهذا ـ إن أطاقه الجهد، واتسع له الوقت ـ يكون أشد بلبلة، وأوسع اضطراباً، وأعم فوضي من " النحو " الذي نعيبه ونزري عليه. والسبب