/ صفحه 59 /
وفي هذا المثال يقال ما سبق في غيره وفي مئات من نظائره التي لم أسردها. وحين أقول " مئاتٍ " فإنما أقصد الحقيقة العددية المعروفة اليوم من غير مبالغة في التقدير ولا إسراف. من ذلك كله يتبين لنا ما في النحو من شوائب الخلط والاضطراب وعدم الاستقرار. ولها من سيئ الآثار ما وصفنا وما لم نصف.
وازدادت المشكلة تعقيداً بازدياد هجرة العرب (سواء أكانوا من القائل الست أم من غيرها). إلى الأمصار الجديد؛ كالبصرة، والكوفة، وبغداد، ودمشق، وحواضر الأندلس وغيرها؛ فضربت القبائل النازحة هناك بخيامها، واستقرت كل قبيلة بمصر، وتكلموا فيه بلسانها الأول، وبلغتها ولهجتها التي كانت تصطنعها قبل هجرتها؛ فتباينت اللغات واللهجات في المواطن الجديدة، تباينها في المواطن القديمة، بل زادت وصار لكل مصر لغة تختلف قليلا أو كثيراً عن لغة غيره من الأمصار، بقدر الاختلاف القديم بين لغتيهما قبل الهجرة من موطنهما الأصيل في شبه الجزيرة العربية، بل أكثر.
ثم زاد التدوين والتأليف والتعليم، واستمد كل واحد من هذه الثلاثة وجوده من اللغة السائدة في مصره؛ فتباينت النتائج والآثار العلمية والعملية بتباين اللغة واستمساك كل قبيلة بلغتها ولهجتها؛ فنشأت الفرق والمذاهب النحوية الجديدة؛ ما بين بصريين، وكوفيين، وبغداديين، وأندلسيين... كل فريق يستمد أحكامه ويستنبط قواعده من اللغة التي تحيط به، وتشيع في حاضرته؛ فاتسع ميدان الفوضي النحوية، وكثر المضطربون فيه، ولم يقتصر الأمر على هذا؛ بل كان من الجماعة الواحدة " البصرية أو الكوفية... " من يخرج عليها ويخالفها في بعض آرائها فيبتكر رأيا جديداً، أو ينضم إلى رأي فريق آخر، فالبصري قد ينادي برأي مستقل ليس لطائفته، وقد يأخذ برأي الكوفي، والكوفي كذلك قد يستقل، أو يتابع البغدادي، وهكذا... لدليل ارتضاه وخالفه فيه حواريوه. فزاد تعدد الآراء النحوية في المسألة الواحدة، وزاد اختلاف الأحكام فيها؛ وخفيت الحقائق على طلابها، وصعب عليهم استخلاصها مما يغشيها، وزهدوا فيها أو كادوا، وقد