/ صفحه 409/
يسلك فيه مسلك أولئك الملوك الطامعين في بلاد غيرهم للإستئثار بخيراتها دونهم، فلم يجئ بأسلوبهم من التهديد والوعيد، والتباهي بالقوة والسلطان، ليخوفوا البلاد التي يطمعون فيها، ويجعلوها تخضع اليهم في مسكنة ومذلة، وإنما طلب منهم ألا يعلوا عليه، بأن يردوا على كتابه، فإن ترك الإجابة من التكبر والعلو، وشتَّان بين أولئك الملوك الذين يطلبون التكبر والعلو على غيرهم، وبين سليمان الذي لا يطلب من غيره إلا أن يترك العلو عليه، لأن العلوم من شأن الله وحده، وإنما كان أولئك الملوك يطلبون العلو على غيرهم، لأنهم كانوا يدعون الألوهية وأن غيرهم عبيد لهم، ثم طلب منهم أن يأتوه مسلمين، أي طائعين مؤمنين بالله تعالى، ولما سيأتي أيضاً في هذه القصة، مما يوضح مقصد سليمان من أولئك القوم، وأنه لم يكن يبغي في ذلك توسيع ملك مثل أولئك الملوك الطامعين، وإنما هي دعوة إلى دين الله تعالى، وإنما هو غرض ديني لا سياسي، يقصد إليه سليمان في سلم لا حرب، لأن السلم هو طريق الإيمان بالله تعالى.
ولكن أولئك الملأ الذين دعتهم بلقيس لاستشارتهم لم يفهموا قصد سليمان من السلم، فأخبروها حين أخبرتهم بذلك وطلبت رأيهم فيه بأنهم أولو قوة في الجسم على القتال، وأولو بأس شديد عند الحرب، كما قال تعالى في الايتين ـ 32، 33 ـ من سورة النمل: " قالت يأيُّها الملأ أفتوني في أمري ما كنتُ قاطعةً أمراً حتى تشهدون، قالوا نحن أولو قوة وأولو بأسٍ شديدٍ والأمرُ اليكِ فانظري ماذا تأمرينَ " وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم به، مما يدل على أنهم لم يفهموا كتاب سليمان على حقيقته.
فأجابتهم بلقيس عن تعريضهم للقتال، وأخبرتهم بما يؤول إليه أمره من الشر، وهذا بما حكاه الله تعالى عنها في الاية ـ 34 ـ من سورة النمل: " إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة وكذلك يفعلونَ " تعني أنهم إذا دخلوا عنوة أفسدوها بالحرب (1) واستعبدوا أهلها بعد اتتصارهم عليهم.
ــــــــــ
(1) قيد العنوة لبيان الواقع، لأنهم في الحقيقة لا يدخلونها إلا كذلك.