/ صفحه 346/
ودانيهم، ويعلم به في كل ناحية من نواحي هذه المملكة المترامية الأطراف. ولعله من جهة أخرى لم يكن يحب هذا الضجيج الذي أثاره العلماء بجدالهم ونقاشهم، وذهاب كل فريق منهم مذهباً يخالف صاحبه وتمسكه بهذا المذهب حتى يراه وحده هو الجدير بأن يتبع ويرى غيره فاسداً أو باطلا، كما أنه من الممكن أنه من جهة ثالثة أزاد أن يرضى أهل الحجاز ويصطنعهم ويتقرب إلى هذا الإمام العظيم، إمام دار الهجرة، وقد بهره ما في كتابه من العلم المستمد من الرواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن الثقاة أصحابه، ليخالف بذلك عن سنة الأمويين الذين كانوا لا ينظرون إلى أهل الحجاز نظرة المطمئن إلى ولائهم لسلطانهم ودولتهم، كما أن المتتبع لتاريخ العباسيين ومواقفهم من العلويين يجد سبباً آخر هو رغبة المنصور في الحد من نفوذ آل علي المذهبي بصرف الناس عن فقههم، إلا أن مالكا ينهى المنصور عن تنفيذ فكرته فيعدل عنها عدول من تبين له وجه الخطأ فيها، فقد جاء في بعض ما روى في هذا الشأن أن المنصور حين سمع مقالة مالك أكبره وشكره ودعا له بالتوفيق.
إن مالكا لم تستهوه هذه الفكرة، وإن كان فيها كل التأييد لمذهبه، ولم ينتهز الفرصة لقبول هذا الاقتراح ممن يملك تنفيذه وحمل الناس عليه بما له من قوة السلطان والحكم، فلقد كان أجل من أن يخدعه هذا الإغراء عن الحق، وأجل من أن يتعصب لنفسه أو لمذهبه في هذه القضية الأساسية، وأجل من أن يكتم السلطان ما يجب عليه من النصح له وللمسلمين، وإن فوت عليه هذا النصح ما قد يحرص عليه كثير من الناس.
إن مالكا قد أرجع المسألة إلى أصلها، ولم ينظر إلى أواخر الامر في هذا الخلاف بين علماء الشريعة، وإنما نظر إلى أوائله.
إنه يعلم أن كتابه الذي ألفه وجمعه ليس هو كل شيء في هذه الشريعة، وليس هو الكلمة الفاصلة في كل أمر من أمورها أو مسألة من مسائلها، فلغيره نظر كنظره، وبحث كبحثه، وجمع كجمعه، وقد يكون عند غيره من العلم ما ليس عنده، ولعله لو اطلع عليه لأخذ به ورجع عما كان قد اختاره، وقد يحمل علمه إلى قوم في بلد