/ صفحه 327/
أليس عجيباً كل العجب أن يكون لهذه البعوضة الحقيرة مخ يتحرك ويتدبر؟...
واي حجم لهذا المخ... لقد صدق العرب حينما ضربوه مثلا لما لا ينال ولا يستطاع، من حقارته وضآلته ونأيه عن التناول... يقول ابن أحمر:
ما كنت عن قومي بمهتضم لو أن معصيا له أمرُ
كلفتني مخ البعوض، فقد أقصرتُ، لا نُجح ولا عذر!
ولقد أحسن الشاعر في الدعاء حين قال يخاطب ربه:
يا من يرى مدَّ البعضو جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى عروق نياطها في نحرها والمخ في تلك العظام النُّحَّل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه في الزمان الأول
ولله در الإمام على رضي الله عنه حين يقول عن الناس: " ولو فكروا في عظيم القدرة، وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق؛ ولكن القلوب عليلة، والبصائر مدخولة؛ ألا ينظرون إلى صغير ما خلق الله: كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وخلق له السمع والبصر، وسوَّى له العظم والبشر " (1)؟!.
ويفصل صاحب كتاب " الحيوان " وجه العبرة في هذه الناحية فيقول:
" فأما خلق البعوضة والنملة والفراشة والذرة والذِّبَّان والجعلان واليعاسيب والجراد ـ فإياك أن تتهاون بشأن هذا الجند، وتستخف بالآلة التي في هذا الذَّرء؛ فرَّبت أمة قد أجلاها عن بلادها النمل، ونقلها عن مساقط رءوسها الذر، وأهلكت الفأر، وجردت بالجراد، وعذبت بالبعوض، وأفسد عيشها الذبان، فهي جند إن أراد الله عزوجل أن يهلك بها قوما بعد طغيانهم وتجبرهم وعتوهم، ليعرفوا أو ليعرف بهم أن كثير أمرهم لا يقوم بالقليل من أمر الله عزوجل؛ وفيه بعد معتبر لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، وصلاح لمن استبصر وبلوى ومحنة، وعذاب ونقمة، وحجة صادقة، وآية واضحة، وسبب إلى الصبر والفكر، وهما جماع الخير في باب المعرفة والاستبانة، وفي باب الأجر وعظم المثوبة " (2).

ــــــــــ
(1) نهج البلاغة، ج 2 ص 139 طبعة الاستقامة.
(2) الحيوان، ج 3 ص 303 و 304.