/ صفحه 328/
ويقال إن بعض جبابرة الولاة بالعراق كان يقتل بالبعوض، فيأمر بمن يريد قتله، ليجردوه من ثيابه، ويربطوا بعض أطرافه ببعض، ويلقوه في الأماكن التي يكثر فيها البعوض، فلا يلبث طويلا حتى ينهش البعوض جلده ولحمه، ولا تبقى غير عظامه (1)!!.
وقد يسأل سائل عن الحكمة الإلهية في ضرب المثل الوارد في الاية الكريمة، وعن وجه الشبه بين البعوض وبين القوم المجرمين الذي جاء بشأنهم هذا المثل، وقد قال الربيع بن أنس في ذلك: إن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل، إذا امتلأوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك؛ ثم تلا قول الله عزوجل: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " (2).
هذا وقد تكرر ذكر البعوض في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الحديث الذي رواه الترمذي بسند صحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " (3)!. وقد نظر الشاعر إلى هذا حين قال:
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فاته منها فليس بضائر
فلن تعدل الدنيا جناح بعوضة ولا وزن زِفٍّ (4) من جناح لطائر
فما رضى الدنيا ثوابا لمؤمن وال رضى الدنيا عقابا لكافر (5)
وياله من هوان للدنيا عند الله عزوجل، حتى يجعلها لا تبلغ هذا الجناح الحقير من تلك البعوضة الضئيلة!... إن في ذلك لعبرة لأولى الألباب!....

ــــــــــ
(1) نهاية الأرب ج 1 ص 302.
(2) انظر مجمع البيان، ج 1 ص 67 وتفسير الطبري، ج 1 ص 138، والاية المذكورة هي في سورة الأنعام رقم 44. ومبلسون: أي ساكتون من الحزن، والإبلاس: الحزن المعترض من شدة البأس. وأبلس فلان: إذا سكت وانقطعت حجته.
(3) التاج الجامع للأصول، ج 5 ص 57.
(4) الزف: الصغير من الريش.
(5) أي ما رضى الله ذاك. انظر البيان والتبيين، ج 3 ص 179.