/ صفحه 326/
وقد يكون من الحكمة أن ننظر إلى ضرب المثل بالبعوضة من جهة أخرى... فإن التدبر لشأن البعوضة يثير الفكرة والعبرة؛ إذ أن هذا الحيوان الضئيل الصغير الحقير يمكنه أن يشغلنا بخلقه وتركيبه وطبائعه، ويمكنه أن يفتح أمامنا بابا للتأمل في عظيم قدرة الله ودقيق صنعته، ففي هذا الحيوان الضئيل جداً ما في كبار الحيوانات من أعضاء وأعصاب، ولقد روى عن الصادق أنه قال: إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره، وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه (1)!!....
أليس من القدرة القادرة المقتدرة أن تصاغ البعوضة الضئيلة تلك الصياغة الدقيقة المحكمة، وأن يخلقها الخلاق على جهة الإنشاء والإبداع، لا جهة الجمع والتنسيق فحسب؟!.. أليس عجيباً كل العجب أن يكون لهذه البعوضة الضئيلة جداً رأس وبطن وأمعاء وأجنحة ومخ وأرجل وأيد وعيون؟!... الخ...
استمع إلى الجاحظ وهو يجدثك عن جناح البعوضة، وما له من تصرف وتقلب، وما يأخذه ذلك الجناح عن غيره، وما يفرزه من ذات نفسه، فيقول:
" ولو وقفت على جناح بعوضة وقوف معتبر، وتأملته تأمل متفكر، بعد أن تكون ثاقب النظر سليم الآلة، غواصاً على المعاني، لا يعتريك من الخواطر إلا على حسب صحة عقلك، ولا من الشواغل إلا ما زاد في نشاطك، لملأت مما توجدك العبرة من غرائب الطوامير الطوال، والجلود الواسعة الكبار؛ ولرأيت أن له من كثرة التصرف في الأعاجيب، ومن تقلبه في طبقات الحكمة، ولرأيت له من الغزر والريع، ومن الحلب والدر (2)، ولتبجس عليك من كوامن المعاني ودفائتها، ومن خفيات الحكم وينابيع العلم … (3)"!!....

ــــــــــ
(1) تفسير الطبرسي، ج 1 ص 67 طبعة صيدا، سنة 1333 هـ.
(2) الغزر: فكسر: الكثرة من الشيء، يقال: غزرت العين كثر ماؤها. الريع: النمو والزيادة. الدر: بفتح الدال المشددة. سيلان اللبن أو كثر ".
(3) الحيوان ج 1 ص 208.