/ صفحه 324/
ما يقوتها، فقال هذه العبارة الواعظة البليغة: " فمن علمَّ البعوضة أن من وراء ظاهر جلد الجاموس دماً، وأن ذلك الدم غذاء لها، وأنها متى طعنت في ذلك الجلد الغليظ الشثن الشديد الصلب، أن خرطومها ينفذ فيه من غير معاناة؛ ولو أن رجلا منا طعن جلده بشوكة لانكسرت الشوكة قبل أن تصل إلى موضع الدم … ,هذا باب يدرك بالحس وبالطبع وبالشبه وبالخلقة، والذي سخر لخرطوم البعوضة جلد الجاموس هو الذي سخر الصخرة لذنب الجرادة، وهو الذي سخر قمقم النحاس لإبرة العقرب " (1)!....
* * *
ونعود بعد ذلك التعريف إلى التنزيل المجيد، وهو قوله عز من قائل: " عن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما قولها " أي إن الله تبارك وتعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة على سبيل الاستحياء من التمثيل بها لحقارتها وضآلتها، فإن أهل الرأي والحكمة ما زالوا من قديم الأزمان يتخذون من البهائم والطيور والحشرات والهوام أمثلة لتعظيم الجليل، أو تحقير الضئيل، أو إظهار الخفي الغامض، أو تقريب البعيد الشارد، أو تقليل ما نظن به الكثرة على غير حق؛ والعرب الذين نزل القرآن الكريم عليهم بلغتهم، من أكثر الأمم ضرباً للأمثال، والكتب العربية المصنفة في الأمثال خير شاهد على ذلك بكثرتها وضخامتها، وقد تفنن العرب في ضرب الأمثلة بصغار الحيوان والطير والحشرات، وتمثلوا فيها بأحقر الاشاء، فقالوا: أجمع من ذرة (نملة)، ,أجرأ من الذباب، وأضعف من الفراشة ومن البعوضة، وآكل من السوسة؛ وغير ذلك...
فلا عجب إذن ولا غرابة، ولا محل للإستحياء في ضرب المثل بالبعوضة، ولذلك قال الزمخشري: " سيقت هذه الاية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكونم المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل، ليس بموضع للإستنكار والاستغراب، من قبل أن التمثيل
ــــــــــ
(1) المصدر السابق، ج 7 ص 185.