/ صفحه 30/
الأولى أخذت عقول الشعوب تتنبه، وعزائمها تتحرك؛ وكانت مغالبة بينها وبين الغالبين من جهة، وبينها وبين الذين أقامهم الغالبون ستاراً يحكمون الشعوب بأسمائمهم ومن جهة أخرى. يتحكمون في الرقاب بسلطانهم الوهمي الذي ليس من الدين، ولكن الشعوب إذا تحركت لا ترجع، فلما جاءت الحرب الثانية وقادونا إليها وليس لنا فيها ناقة ولا جمل، ولم تستطع الشعوب فكاكا من حكمها، لأن مقاليد الأمور لم تكن بأيدي ممثليها، ولكنها في هذه الجولة لم تكن كالأولى، وهم فيها كانوا شراً مما كانوا، فقد أخرجوا المسلمين من ديارهم وأموالهم في بقعة من أرض الإسلام، ومزقوا أهلها كل ممزق، وتركوهم يأكلهم العرى والجوع بلا مأوى يؤويهم، ولا أرض يستقرون فيها، فكان ذلك كالمبضع يقطع في جسم حي قد ذهب منه المخدر أو كالسكين تقطع في إنسان حي تكونت له إرادة وعزيمة، فعلم المسلمون حينئذ أن هذا ا بتداء وأنه لابد من أن يقطع على أولئك السبيل حتى لا يصلوا إلى نهاية الطريق فإنها الموت المخبوء، ثم عندئذ علموا أنه لم يعد للإستضعاف موضع في إرادتهم، وأن من يريد الحياة يحيا، ومع اليأس والقنوط الفناء، وأن موتاً في سبيل الحق هو عين البقاء، وظهرت مظاهره، ولقد تنبهوا فوجدوا قول الحق الخالد: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفوراً، ومنم يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وكان الله غفوراً رحيماً ".
4 ـ وفي نهاية هذا المعترك الفاصل بين النوم واليقظة، وبين الاستخذاء والاستعلاء نهضت الأقاليم الاسلامية، فاستقل بعضها استقلالا كاملا، واستقل بعضها استقلالا نسبياً اختفت فيه يد الأجنبي، وإن كان له عمل وراء الستار، ولكن الشعوب لها إرادة، وتريد الإسلام وعزته، وتريد الاستقلال الكامل وحريته.